مقالات

القرضاوي وعصام العريان.. رحلة نصف القرن

هناك جيل من أبناء الحركة والصحوة الإسلامية في مصر، يحتفظ لهم العلامةيوسف القرضاوي بود وتقدير شديدين، منهم مع حفظ الألقاب: عبد المنعم أبو الفتوح، وأبو العلا ماضي، وإبراهيم الزعفراني، وحلمي الجزار، وعصام العريان، حفظ الله الأحياء، ورحم الله من اختارهم لجواره، فقد قدّم هؤلاء الشباب في مرحلة السبعينيات ،القرضاوي وبقية العلماء لشباب الجامعات، وشباب الصحوة بشكل عام.

لقد أحبٌوا القرضاوي، وعرفوه عن طريق كتاباته وكتبه، وأعجبوا بما يكتب، وما يقول، وبادلهم نفس الحب، ونفس التقدير والمكانة. ومن بينهم الدكتور عصام العريان، الذي له في قلب القرضاوي مكانة كبيرة، تدلّ على ذلك مواقف ،لا حصر لها بينهما، شهدت عددا منها، ووصلت الرحلة والمعرفة بينهما إلى ما يقرب من نصف قرن.

أول لقاء بين القرضاوي والعريان:

وقد كان أول لقاء بينهما في حج سنة 1393هـ (1973-1974م)، والعجيب في تذكّر هذا الحدث، أن الذي يتذكّره بتفاصيله القرضاوي، بينما العريان، كان يتذكّر الموقف، لكنه لا يتذكّر أنّه أول لقاء بينهما، فقد كان شيخنا عندما أراد كتابة مذكراته،نجلس ليكتب مفردات الجزء،ثم أرتُب بعض اللقاءات مع أطراف الأحداث، ليلتقي بهم الشيخ، أو يتصل بهم لو كانوا في بلد لن يلتقي بهم قريبا، وعند كتابة هذا الحدث، كنْا في مصر، في زيارة لمكتب الإرشاد،وقد كان العريان مدعوا فيها، فسأله الشيخ: هل تذكر يا دكتور عصام متى التقينا أول مرة؟

لم يتذكْر العريان، فأجاب الشيخ: لكني أتذكّر ذلك، لقد التقينا في موسم حج سنة 1393ه، ثم ذكر له الشيخ الموقف بتمامه، ودوّنه في مذكراته بهذا التفصيل:

في حج هذا الموسم أذكر أني، وقد كنت ألقي محاضرة في بعض المخيمات في منى، وبعد المحاضرة والإجابة عن الأسئلة بعدها: لقيني شاب مصري يتوقد ذكاء وحماسة، وقدم لي نفسه قائلا: أنا عصام العريان، طالب بكلية الطب جامعة القاهرة، وقد كنا نسمع بك، ولكن لم يقدر لجيلنا أن يراك، فنحن من الجيل الذي يسمونه (جيل الثورة) الذي لم ير العلماء والدعاة الذين اضطروا إلى أن يغادروا مصر، ولا يرجعوا إليها، ولكنا قرأنا بعض كتبكم، مثل: (الحلال والحرام) و(العبادة في الإسلام) و(الإيمان والحياة)، وغيرها.

وأذكر مما قال هذا الشاب المتوقّد (الدكتور عصام العريان الداعية والقيادي الإخواني المعروف بعد ذلك): لقد فوجئت حين رأيتك ملتحيا!

قلت له: وما الذي فاجأك؟

قال: لأنك سهْلت في أمر اللحية، فيما كتبته عنها في (الحلال والحرام) ،حيث لم تجعل إعفاءها واجبا، ولا حلقها حراما.

قلت: وهل قلت ذلك لأبرّر  لنفسي أن أحلق لحيتي؟ …إن العالم يقرّر ما يصل إليه اجتهاده بعد البحث والتحرْي، ويدين الله به، حتى وإن كان سلوكه ضده. فقد رأيت الشيخ محمود شلتوت رحمه الله يميل إلى تحريم التدخين،مع أنه كان يدخّن ،ولكن الحق أحق أن يتبع ويعلن، دون تحيْز ولا محاباة).[1]

رأي القرضاوي في محاكمة العريان عسكريا:

بعد هذا اللقاء ،بدأت علاقة القرضاوي بالعريان، وبقية شباب الصحوة الإسلامية، ولكن كانت علاقته بعدد منهم علاقة خاصة، علاقة الأب بأبنائه، بادلهم وبادلوه الحب والتقدير والمرجعية في حياتهم الدينية، وظلّت لقرابة نصف قرن حتى الآن، لا تزيد الأيام هذه العلاقة ،إلاّ قوة ومتانة وحبا في الله تعالى.

وحينما قدّم نظام مبارك عصام العريان وإخوانه للمحاكمات العسكرية سنة 1995م، وكان القرضاوي في زيارة لمصر، وطلب زيارته أحد مسؤولي أمن الدولة في مصر ،اسمه المقدَّم محمد عبد الوهاب، وظلّ يحاوره ويكلّمه عن الإخوان، وسأله: ما رأيك في المحاكمات العسكرية للإخوان؟ فأجاب القرضاوي: هي محاكمات ظالمة، ومتجبّرة، ولا تمّت للدين أو القانون بصلة، وقال مدافعا عن العريان:

(أعرف من الدفعة الأولى المقدّمة للمحاكمة العسكرية: الدكتور عصام العريان، أعرفه منذ كان طالبا في كلية الطب، وكان أميرا للجماعة الإسلامية، وقد كان حريصا على أن ينتقل بالطلاب من الغلو والتشدد إلى الوسطية، وكان يستعين بي، وبشيخنا الغزالي على ذلك. وأعرفه بعد أن نضج وأصبح وجها إسلاميا مصريا مشرّفا، له حضور واضح في المؤتمرات والندوات ،التي تعقد داخل مصر وخارجها. ماذا ارتكب عصام العريان حتى يحكم عليه بخمس سنوات؟).[2]

شفاعة العريان للإخوان عند القرضاوي:

وكان كلّما حدثت مشكلة،أو سوء تفاهم بين القرضاوي والإخوان، يكون العريان رحمه الله، وبعض إخوانه كأبي الفتوح، هم الوسطاء لتخفيف الخلاف، وإزالته، وسرعان ما كان يستجيب القرضاوي له ولأبي الفتوح، لما لهما من مكانة عنده.

بل في غير الخلاف،كان كلّما طلب الإخوان القرضاوي في أمر، واعتذر عنه لمشاغل تشغله،أو لمتاعب تمنعه،وقتها أجد مكالمة من العريان بأنه يتوسّط أو يتشفّع عنده للإخوان لتلبية الأمر، سواء كانت دعوة على مؤتمر،أو دعوة لزيارة في مكان خاص.

هذا ما يفسْر موقف القرضاوي من الإخوان؛ عندما رفضوا تصعيده لعضوية مكتب الإرشاد في عهد الأستاذ عاكف، وصرّح وقتها القرضاوي تصريحا شديدا، يساند فيه العريان ضد الموقف المتصلّب من أعضاء المكتب آنذاك، ودار سجال على صفحات مواقع الإنترنت، في تفاصيل ليس هنا مجال الحديث عنها بإسهاب،لكن موقف القرضاوي من تأييد العريان، دلّ بوضوح على مكانته عند القرضاوي، وأنه أثير إلى قلبه.

دعاء للعريان أغضب القرضاوي!

ومن أعجب المواقف بين القرضاوي والعريان،أن القرضاوي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وما قامت به إيران من دور سيئ وخطير في العراق، وما قام به شيعة العراق وإيران، تغيٌر موقف القرضاوي،بعد أن كان داعيا إلى التقريب بين السنة والشيعة،إلى محذّر من خطر الشيعة في العراق، وما يقومون به من دور مرفوض.

وفي هذا التوقيت، اختلفت رؤية قيادات الإخوان مع القرضاوي، ووقتها كانت المعركة الكلامية قد اشتدت بين القرضاوي وبعض رموز الشيعة، فاختلقوا أكاذيب حوله، منها: أن القرضاوي يهاجهمم، لأن ابنه قد تشيَّع، ولم يكن موقفه إلاّ عن معلومات وصلته من أهل السنة في العراق وفي غيرها عما يجري، وهو ما كشفته وأثبتته الأيام فيما بعد.

ولكن للأسف قيادات الإخوان في مصر،لم يكونوا على اطلاع على هذا الملف، وكان موقفهم ينطلق من الوحدة بين المسلمين، دون النظر للواقع، وما يحدث فيه على الأرض، وكان معهم في نفس الموقف من مفكري مصر: الدكتور محمد سليم العوا، والأستاذ فهمي هويدي، والمستشار طارق البشري، وكلْهم أصدقاء للشيخ،وعلى رأس الإخوان المرحوم محمد مهدي عاكف، وكانت تصريحاتهم مخالفة لتوجّه الشيخ وقتها، وقد سبّب ذلك ألما للشيخ،ولم يكن سببه الألم الشخصي، بقدر ما كان يرى أن المعلومات التي توفّرت لديه،لو اطلعوا عليها لغيْروا رأيهم، وأن ما تقوم به إيران في المنطقة أمر خطير، وأندفاعهم يضعف ما يقوم به من إنذار وتحذير.

وكتب الشيخ ردودا على من انتقدوا موقفه،وكتب في ذلك رسالة صغيرة، بينّن فيها موقفه الجديد من قضية التقريب بين السنة والشيعة، لتضم إلى رسالته القديمة التي كتبها، وفكّر الإخوان في تلطيف الموقف بينهم والقرضاوي، فبادر بالاتصال الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وطلب مني حينما أكون قريبا من الشيخ،أن أتصل به ليكلُمه، وبالفعل ذهبت وقلت للشيخ أبو الفتوح يريد الاتصال بك، وواضح أن الموضوع بخصوص موقفك الأخير من إيران، اتصلت بأبي الفتوح، وطالت المكالمة، التي كان معظمها عتابا من الشيخ على موقف الإخوان من القضية، ولم يخف تألمه من موقفهم، وبخاصة أبي الفتوح والعريان، وختم المكالمة مع أبي الفتوح بهذه الأبيات معاتبا على موقف الإخوان وغيرهم معه، وهي:

وإخوان حسبتهم دروعا   …    فكانوها ولكن للأعادي

وخلتهم سهاما صائبات   …   فكانوها ولكن في فؤادي

وقالوا قد صفت منا قلوب   …    لقد صدقوا ولكن من ودادي

وقالوا قد سعينا كل سعي …   لقد صدقوا ولكن في فسادي

انتهت مكالمة القرضاوي بأبي الفتوح، وكنت بجواره طوال المكالمة، بعدها اتصل بي أبو الفتوح، ضاحكا، وقال لي: لقد رزعني الشيخ أبياتا أسكتتني تماما، فلم أستطع الجواب عليه، ولم أجد إلا أن أقول له: يا مولانا، أبيات جميلة، ولكن ليس لي في الشعر مثلك، لأرد عليك.

دعاء العريان

بعدها، اتصل العريان رحمه الله، ليلّطف هو الآخر، بعد أن كلّمني وأخبرته بما دار من مكالمته مع أبي الفتوح، وذكرت له الأبيات، التي استشهد بها، فضحك العريان، وقال: لعلّي أفلح في التهدئة، واتصل فعلا، وكعادة العريان، ظل يناقش الشيخ في قضايا بعيدة عن الموضوع، ليمهّد للحديث عن موضوع الخلاف،ولكنه أحسّ أن الموقف لا يحتمل، فلم يتكلّم، وختم مكالمته بدعاء للشيخ قائلا: أسأل الله أن يجعلك وسطيا، كما عهدناك يا مولانا.

انتهت مكالمة العريان، ووجدت الشيخ قد صمت، فقلت له: أراك أهدأ من المكالمة السابقة مع أبي الفتوح، فقال لي: العريان لم يتكلّم في الموضوع، فقط سأل عن الصحة والحال، ثم ختم لي بدعاء لم يعجبني، فقلت له: لماذا لم يعجبك؟ لقد دعا لك أن تكون وسطيا كما عهدناك، فقال: هذا معناها أنه يرى أني لست وسطيا في موقفي مع إيران!!

اتصلت بالعريان، وأبلغته كلام الشيخ، وماذا فهم من دعائه، فضحك ضحكته المعهودة الصافية، وقال: لم أقصد ذلك، قلت له: ما دام قد فهم الشيخ هذا المعنى، فربما تبادر إلى ذهنك، وهو فهم موقفك من القضية، فلما دعوت بهذه الصيغة، فهم رأيك الذي لم تعلنه، أنت أبلغته رأيك بذكاء، وهو فهمه بذكاء.

ثم قلت له مازحا، ومذكُرا له بتاريخه مع الكبار: مشكلتك أنك يا دكتور عصام ،تريد أن تبيع المياه في حارة السقائين، وقلت له: ألا تذكر يا دكتور عصام، عندما كنت شابا ومرشّحا لمجلس الشعب، وكنت في مؤتمر انتخابي، ومعك على المنصّة، الشيخ صلاح أبو إسماعيل، وأردت أن تبيّن مواهبك في مداعبة الشيخ صلاح، فقلت: إنني كلّما رأيت أخي صلاح أبو إسماعيل ،تذكّرت قوله تعالى: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) البقرة: 247، وكان الشيخ صلاح ممتلئ الجسد رحمه الله، فنظر نظرة لم تخف علينا جميعا، مفادها: تريد الدخول مع الأسد في ممازحة، فقال أبو إسماعيل ردا عليه: وإنّي كلّما رأيت أخي عصام العريااااااااان تذكّرت قول الله عز وجل: (ولباس التقوى ذلك خير) الأعراف: 26.

وكان آخر ما كتبه القرضاوي عزاء في العريان: (رحم الله الدكتور عصام العريان رحمة واسعة.. فقد لقي ربه مخلصًا لدينه ووطنه وأمته. اللهم اغفر له وارحمه، وأكرم نزله، وأنزله منازل الصديقين، وارفع درجاته في عليين، واخلفه في عقبه بخير، وتقبل عمله، وبارك جهده، وارفع الغمة عن إخوانه).

هذه بعض محطّات من علاقة القرضاوي والعريان ،في رحلة امتدت لقرابة نصف قرن، وهناك تفاصيل أخرى، لا يتسع المقام لذكرها، رحم الله العريان، وحفظ الله القرضاوي.

[1] انظر: ابن القرية والكتاب للدكتور يوسف القرضاوي الجزء الثالث ص: 306،305.

[2] انظر: ابن القرية والكتاب للدكتور يوسف القرضاوي الجزء الرابع ص: 676.

المصدر: الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق