مقالات

أعلام الدعوة (٤)…الدكتور راجح الكردي

بقلم الدكتور أحمد نوفل
الدكتور راجح عبدالحميد الكردي (أبو عبدالحميد)،ابن عقربا – نابلس، وهي على مشارف غور نهر الأردن.
جمعتنا كلية الشريعة، سبقنا فوج منهم ،الشيخ حامد البيتاوي رحمه الله، (ولعلي أفرد له حديثاً)وكنّا نحن الفوج الثاني ،ومنهم الدكتور محمد عقلة الإبراهيم (من كتم) ،الذي صار عميد كلية الشريعة في جامعة اليرموك، والدكتور راجح من الفوج الثالث ،الذي تلانا، وجاء بعدنا، وكان هو فيما أعلم وأذكر أوّلهم وأبرزهم وسابقهم.
ونشأت بيننا صداقة وأخوّة منذ التحاقه بالكلية،وكنّا في أقسام داخلية، نسكن كليتنا التي ندرس فيها. ولولا هذه المنحة ،بعد فضل الله، ما تمكّن مثلي من الدراسة، ولا أدري عن حال الأخوين الكريمين الشيخ حامد والشيخ راجح، ربّما كانا أحسن حالاً، فهم في قراهم وأراضيهم، ونحن من اللاجئين.. يا أسفا على فلسطين!
ذكاء الدكتور راجح ،أول ما يلفتك في شخصيته، وقد آتاه الله وسامة،لكن ذكاءه واجتهاده على نفسه في القراءة والثقافة والمطالعة والدراسة المنهجية ،قدّماه ورفعاه بفضل الله.
درسنا معاً في القاهرة في مرحلة الدكتوراه، وكنا نجتمع كل جمعة في بيت صديق من غزّة رحمه الله، ويلتم الشمل ،بمجموعة ممن غدوا أعلاماً فيما بعد: فتحي الشقاقي ،وموسى أبو مرزوق ،وعبدالعزيز الرنتيسي ،وغيرهم. رحمة الله على من مات ممن ذكرت.
كان د. راجح ،مدرسا، خطيبا، كاتبا، متحدّثا، له مواهب متعددة، برع فيها جميعاً، وتقدّم وتميّز.
لا أظن أن أحداً سبقه في كل مراحل دراسته، لما أوتي من موهبة وعقل وذكاء وفطنة وزكانة.
وقد بقي لسنوات طويلة،خطيب واحد من أهم مساجد العاصمة عمّان: مسجد التلاوي في الجبيهة، وكان يأتيه الناس من كل فج ،فتفيض جنبات المسجد، وساحاته الخارجية بالبشر المصلّين، إنما جمعهم الفرض نعم، ولكن أتى بهم من مكان بعيد ،جودة خطبة الخطيب، مع جرأة وحكمة،إذ يقول الحق بأرق وأروع أسلوب.. شأنه شأن أبي عمر محمود أبو دنون، وإن كان لكل أسلوبه بالطبع.
تخصّص في العقيدة، وأكمل فيها رسالة الدكتوراه وكان مميّزا متقدّما،فهذا شأنه وليس غريباً عليه، ولا بعيداً عنه، وكانت رسالته فيما أذكر في نظرية المعرفة.
وهو متمكّن من الفلسفة، فهكذا كانت هي دراسة العقيدة.
والفلسفة ،وإن كان فيها التعقيد أحياناً، لكنها تنظّم العقل ،وتفجّر طاقاته، وينابيع المعرفة والتفكير فيه، وخطورتها أنها قد تصبح منهج حياة ،ونمطاً وأسلوباً في التوصيل والعرض. ولكن الدكتور راجح تمكّن منها، وكان يستطيع الفكاك متى أراد،فما تمكّنت منه حتى التحكّم والسيطرة والاستحواذ.. ويقال لكل من اسمه نصيب، وأخونا الدكتور راجح له من اسمه أوفى نصيب، فهو ذو عقل راجح،وفكر عميق دقيق.
مقلٌ في الكتب، ولو أراد لكان له فيها سهم وافر ،وحظ ونصيب كبير، وكلنا قصّر في هذا ،وشغلتنا عن هذا شواغل كثيرة ،فما انتبهنا إلا في الشوط الأخير من العمر.. ولا بأس. حاولنا أن نكون جيراناً ،فاشترينا معاً قطعاً من الأرض ،تكفي كل قطعة لبناء بيت، كل من الدكتور عزام، وأبي فارس، وراجح الكردي، وأبو أكرم الخواجا (ولعلي أفرد له حديثاً ،وإن لم يكن عالماً لكنه كان شخصية اجتماعية محبوبة ،نادرة الكرم والذكاء) ولكني لم أكسب شرف صحبتهم في السكن ،فقد بعت قطعتي، وسكنت قرب الجامعة.. والحمد لله على كل حال.
كان من الأصدقاء المقرّبين، كما أسلفت، وجمعتنا سوى الجامعة ،مناسبات شتى ودروس ومحاضرات ونشاطات ورحلات.. أسأل الله أن يتقبّل منا جميعاً صالح العمل ،وأن يجعله خالصاً.
أبو عبدالحميد ،شخصية اجتماعية، وشخصية قيادية، ترأّس القسم في الشريعة (قسم العقيدة)، سنوات ،وأداره بكفاءة واقتدار، ودرّس في أكثر من كلية وأكثر من جامعة، ولا أعلم أنه تغرّب، كل ذلك في الأردن. لكن وجوده الأول،وحضوره، وموقعه الطبيعي حتى غادر الدنيا: الجامعة الأردنية.
فقد سبقته في مغادرة الكلية، وكانت بلا مبالغة، أعزّ علينا من الدنيا وما حوت،ففيها من فضل الله خرّجنا أجيالا وأفواجاً..
وأصيب الشيخ الدكتور راجح الكردي ،بمرض أقعده في بيته فترة من الوقت، وبدأت صحّته تتراجع شيئاً فشيئاً، إلى أن فوجئنا بالخبر الصاعق: وفاة أبي عبدالحميد،رحمات الله شآبيب على قبر هذا الأخ الحبيب اللبيب الأريب الأديب.
وكم تجلّت منزلة الشيخ في الحضور المهيب في جنازته رحمه الله، وفي بيت العزاء الذي كانت تغلق الطرق إليه ،من زحمة السير، وتحتاج إلى من ينظّم حركة السيارات دخولها وخروجها، بالصعوبة البالغة من شدّة تزاحم الناس ،وتوافدهم زرافات إلى بيت العزاء ،في هذا الرجل، في هذا العقل، في هذه المواهب في هذا الإنسان ،صاحب الفضل والحكمة والحضور..
رحم الله الأخ الحبيب ،والجار القريب ،والزميل في العمل، والصديق في كل الأحوال، رحم الله أبا عبد الحميد المتميّز دواماً، والمتقدّم أماماً وإماماً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق