مقالات

التحوّلات والحقائق التي أبرزتها بطولة العالم في قطر

بقلم : شكيب بن مخلوف *
عندما نتابع ما يجري في قطر الآن، فإننا نرى في الظاهر مباريات تجري في ملاعب كرة القدم، لكن الحقيقة أن هنالك مباريات مختلفة لها طابع آخر تدور رحاها في منابر ومنتديات متعددة، قد تكون أكثر فاعلية وعمقا من مباريات كرة القدم. وهذا هو بعضها:
1- على مستوى الرياضي، فإننا نلمح سيطرة كاملة خلال العقود الماضية لبعض المنتخبات الاوروبية ،وكانت بحق سيدة الميدان ، وتتمتّع بسيطرة شبه مطلقة على الكرة المستديرة، لكنها شهدت تراجعا في الفترات الاخيرة ببروز فرق إفريقية وآسيوية، كانت تلعب سابقا في الهامش. وهذا التحوّل لم يرق لبعض الأوروبيين الذين شعروا بأن زمان الهيمنة والسيادة على الكرة المستديرة في طريقه للزوال ،وأن نجمهم في طريقه للأفول ، إن استمر تراجعهم بهذا الشكل. ولقد ظهر ذلك في نبرة بعض المحلّلين الرياضيين التي حملت بين طيّاتها شيء من الاستعلاء والعنصرية لا تمت الى الرياضة بصلة.
2- في المجال الثقافي، وعلى مستوى القيم والمبادئ: لأول مرة في تاريخ كرة القدم تنظّم مسابقة عالمية بهذا الحجم على أرض مسلمة ومن قِبَل مسلمين، وهذا بالطبع يحتّم على البلد المستضيف أن يحترم قيمه وثقافته ويطالب غيره بذلك، مما وضع البلد المضيف في مرمى الاستهداف من قِبَلِ جهات ترى في نفسها أستاذة للبشرية، تمتّعت بالهيمنة شبه المطلقة في مجالات متعددة، ولم تتعوّد من بلد بحجم قطر أن يقول لا. والمحزن في هذا ،هو أن دولة صغيرة بحجم قطر قامت بجهود كبيرة جعلت رئيس FIFA يصرح بأن هذا المونديال سيكون افضل مما سبقوه جميعا، وذلك لم يشفع لهم، لدرجة ان بعض المحللين الرياضيين يصبّون على قطر جام غضبهم، وينشرون أخبارا كاذبة تصل لدرجة التنمّر.
كما برز خلال مونديال قطر ،أن هنالك اختلافا في القيم بين الشعوب، يحتاج لمناقشة معمّقة حتى تتجنّب البشرية صراعات لا تخدم أحدًا. أما على المستوى الثقافي، فإن التعددية الثقافية، واحترام التنوّع الثقافي للشعوب لا يعدو عن كونه شعارا بدون مضمون، وأنه لا زال في البشر من يرى في نفسه الأفضلية ،وينظر إلى ثقافة غيره بشيء من الدونيّة والاستهزاء. ولقد حزنت عندما سمعت أحد المحلّلين في دولة اوروبية يقول إن قطر اشترت بمالها كل شيء، لكنها لم تستطع ان تشتري الانتصار، فتكون أول دولة تخرج من المسابقة، علما أن العديد ممن تميّزوا في هذا المونديال، وسجّلوا أهدافا هم من المجنّسين، وليسوا من أبناء البلد الأصليين.
3- على المستوى السياسي: تحوّلت قطر إلى ساحة لصراع سياسي بين أجندات مختلفة. ولقد لا حظنا أن محلّلين رياضيين في بعض الدول الاوروبية، لم يتوخوا المهنية في تحليلاتهم ،وخرجوا بتعليقاتهم وتحليلهم من إطاره الرياضي إلى اطار سياسي، لدرجة أن بعضهم ينقل تصريحات تطالب المنتخبات الأوروبية بالانسحاب من المونديال ، بسبب حقوق الانسان في بعض الدول العربية.
ومن جانب آخر، إن أكثر الدول حضورا في المونديال رغم غيابها وتهميشها هي فلسطين، فقد كانت الغائب والحاضر الأكبر بحيث لا تخلو مبارة من حضور العلم الفلسطيني، أما خارج الملاعب ،فقد كان للأغاني والأهازيج الشعبية للعديد من المشجعين من مختلف الدول، تتغنّى بدعمهم وتضامنهم مع الشعب الفلسطيني ،لدرجة أن مذيع أحد القنوات الإسرائيلية، صرّح بأنه غير مرحّب بهم من قبل معظم الجماهير الحاضرة، وصرح بأن ذلك يعد ذلك بمثابة استفتاء حول مدى قبول الجماهير المسلمة بالتطبيع.
عموما، فقد أظهر مونديال قطر أشياء لم تكن واضحة عند كثير من الناس، وأن السياسة والقيم لها حضور خفي وقوي، وأن التعددية الثقافية عبارة عن شعارات ليس إلاّ وأن العالم يعيش أزمات متعددة تحتاج الى الحوار، وليس إلى التصادم، وإلى الاحترام المتبادل وليس إلى فرض الإرادات.
كما أثبت ان الوحدة الاسلامية ممكنة، إذا وجد المشروع الهادف والجاد.

ناشط سياسي جزائري مقيم في الغرب.
* (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع). 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق