مقالات

هل تصل داعش لميدان العتبة؟

بقلم : أحمد الدريني*

هل يمكن أن يصل تنظيم داعش التتري،يوما ما إلى ميدان العتبة، ويقيم “الشريعة” ،ويطبّق الحد على بائع الأحزمة “سيد سوكا” ،الذي يرجّح أنه يغش زبائنه؟ هل يمكن أن يبسط التنظيم الوحشي نفوذه معلنا دولة الإسلام ،من صلاح سالم لأول فيصل بعد أن يجتاح العاصمة؟
(2)
هناك ثلاثة مفاصل أساسية، توجّه قاريء خريطة “داعش”،وتكشف مستقبل الجماعة الأكثر دموية وهمجية إلى الآن..
أولا: التنظيم، مكروه في محيط الجماعات الإرهابية الصديقة، فقد خاض معارك طاحنة في سوريا مع جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة،ولم تنجح الجهود والوساطات في الإبقاء عليهما مندمجين تحت راية واحدة، وتناثرت الأقاويل حول الضغائن التي يكنّها قائد داعش أبو بكر البغدادي تجاه قائد جبهة النصرة محمد الجولاني، الذي كان مساعدا له يوما ما.
وكان أن أصدرت داعش ،بيانا تهاجم فيه الظواهري، المدير المباشر للجولاني، قائلة فيه : “جعلت من نفسك وقاعدتك أضحوكة ولعبة بيد صبي غرّ خائن ناكث للبيعة (الجولاني) ،لم تره ،وتركته يلعب بكم لعب الطفل بالكرة ،فأذهبت هيبتك ،وأضعت تاريخك ومجدك”!
ثم تطوّر الأمر بين الجانبين ،لحد قطع داعش رقاب مقاتلي جبهة النصرة، وتصوير هذه العمليات ،وبثها على شبكة الإنترنت ،بعد معارك دموية بين الطرفين في سوريا. لينتهي زمن التعاون المشترك ضد بشار الأسد.
وعلى إثر هذه الشقاقات، تراشق البغدادي بالبيانات النارية مع زعيم القاعدة أيمن الظواهري، ثم سرت الهمسات بأن أسامة بن لادن، كان قد طلب من البغدادي أن يقيم الدولة الإسلامية بنفسه، في إشارة لإعجاب بن لادن بالبغدادي واختصاصه بالأمر من بعده ،فيما يشبه الوصية.
وتداول البعض القول، بأن البغدادي هو الوحيد الذي لم يبايع أيمن الظواهري بعد اغتيال بن لادن، فيما يمكن تفسيره بأن للبغدادي حس استقلال ،ورغبة في إقامة مشروعه الشخصي بمعزل عن الظواهري، الذي لا تبدو قدراته مقنعة لكثيرين من “المجاهدين” ،الذين اختاروا طواعية الانخراط في صفوف البغدادي.
ومن ثم ،فإن البغدادي خاض حربا مباشرة مع القاعدة نفسها،مدفوعا بضغينته ضد الجولاني والظواهري، ومدفوعين هم بكراهيتهم للمارق مشتّت كلمة الجهاديين في الأرض أبو بكر البغدادي..وهذا نصف الكوب الملآن بالنسبة لنا.
(3)
العنصر الثاني، في قراءة خريطة داعش يتعلّق بقدرة التنظيم على الانتشار فكريا.
ويلخّصه السؤال الأكثر إلحاحا: هل يمكن أن تلهم “داعش” آخرين بالانتماء لها خارج الشام والعراق؟
هل يمكن أن يعلن في الغد القريب تنظيم ما نفسه فرعا لداعش في سيناء أو في مصر كلها، مثلما كانت تعلن فروع القاعدة نفسها في أي مكان؟
الأمر هنا يختلف تماما..فقد اعتاد الخبراء تمثيل طريقة الانتماء للقاعدة بنظرية الفرانشيز..أو طريقة سلاسل مطاعم الأغذية الكبرى حول العالم..فهناك ماكدونالدز وكنتاكي في أمريكا ،وهناك فروعهما المنتشرة في دول العالم..كل ما تفعله الفروع، هو الحصول على الترخيص من المركز الأم ، ثم تطهو الوجبات بسر الخلطة،لا أكثر ولا أقل.
وكل ما فعلته القاعدة ،أن أتاحت لكل جهاديي العالم أن ينتسبوا لها، سائرين على درب فتاوها الفقهي، ثم طريقة التنفيذ.واستلهمت فروع القاعدة المحليّة نظرية أيمن الظواهري، من أن العدو عدوان..عدو قريب (الأنظمة الحاكمة) ،ثم عدو بعيد (الغرب الصليبي)،وأن جهاد العدو القريب أولى من جهاد العدو البعيد..ولو مؤقتا!في حين لا تتيح داعش هذا الترف لكل من هبّ ودبّ، فداعش خضعت لهوس البغدادي بالسيطرة، ورغبته في جمع حشود المقاتلين تحت رايته في بقعة بعينها..
البغدادي بالأحرى،أراد أن يلملم الناس تحت رايته في “دولة الإسلام”،ولن يعطي لهم التوكيلات لينشئوا “دولة الإسلام” بنفس المواصفات بعيدا عنه.
البغدادي،بدا لي..طفلا أنانيا..لن يسمح لأحد بأن يلهو بدميته..ولن يسمح لأحد باللعب بها إلا تحت عينيه وبإشرافه.
ومن ثم ،فأنا أستبعد فرضية أن يعلن تنظيم ما في الغد نفسه فرعا لداعش في صنعاء أو ليبيا..داعش صمّمت خصيصا على مقاس “البغدادي”..كانت الفكرة خاضعة لحقوق الملكية الفكرية له، ولم يطرحها للاستهلاك العام ،مثلما فعل أسامة بن لادن.
(3)
العنصر الثالث ،هو الجدل الفقهي السفسطائي الداخلي الذي سيعرقل داعش داخليا..
ففي بيان سابق لداعش ، جاء على لسان أبي محمد العدناني المتحدث باسم التنظيم: “عذرا أمير القاعدة.. الدولة ليست فرعا تابعا للقاعدة ،ولم تكن يوما كذلك، بل لو قدّر لكم الله أن تطأ قدمكم أرض الدولة الإسلامية ،لما وسعكم إلا أن تبايعوها وتكونوا جنودا لأميرها القرشي حفيد الحسين”.
والخطير هنا ،أنه ربط خلافة أبي بكر البغدادي بكونه قرشيَ النسب،حسيني الجد، على حد زعمه، وهو ما يأخذنا لأعماق نظريات الحكم في الإسلام،والتي صيغت قبل قرون طويلة، حين ذهب بعض الفقهاء لحتمية أن يكون خليفة المسلمين قرشيا!
وهي النظرية، التي اعتنقها فقهاء أوائل، مستندين إلى تفسيرات وأحاديث،وهي من مرّات الاتفاق النادر بين التيار السني الكلاسيكي،والتيار الشيعي العام، إذ يؤمن كلاهما بأن الخلافة في قريش، غير أن الشيعة يقصرونها على البيت الهاشمي دونا عن قريش كلها.
ومن ثم ،فإن البغدادي وضع الفريقين أمام مأزق تاريخي مازال غبار القرون عالقا فيه..أنا قرشي النسب هاشمي الانتماء..ومن ثم فليخضع السنة والشيعة معا لسلطاني!
وهو صادرها بذلك بذكاء شديد على الظواهري..ولسان حاله: عذرا أنا قرشي النسب، وأنت لا..فلتتنج جانبا من خلافة المسلمين من فضلك!
وهذا الربط المخترع والمستنبط من مندثر الفقهي الإسلامي، وضع “داعش” نفسها في المأزق ذاته بصورة أكثر تعقيدا..فماذا بعد أن مات البغدادي اغتيالا؟
هنا ،لابد أن تقدّم داعش زعيما قرشيا جديدا تدين له الأركان..وإلا فــ “باي باي”.
داعش ،ليست تنظيما مؤسّسا فكريا وعقيديا، على نحو تبلور تمام التبلور، وهو ما سيضعها مع الوقت أمام معضلات سفسطائية ،سيورّطها فيها خصومهم من الجهاديين، لينقلب الأمر لجدل لن يحسمه إلا الإمام الشافعي في قبره !
(4)
داعش لن تصل إلى ميدان العتبة !

*كاتب مصري

(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق