مقالات

المجاهد الإنسان “محمد جمال النتشة”…فخر لفلسطين والأمّة !

ماجد حسن*
لازلت أذكر إوّل مرُة،رأيت فيها هذا الرجل ..كان ذلك عام 1986،إذ كنت في زيارة لشقيقي الشهيد “أمجد”،الذي كان يدرس في كلية الشريعة في جامعة الخليل،واثناء ذهابنا لأداء صلاة المغرب في مسجد الحرس،وعلى هامش نشاط ،أُقيم في هذا المسجد لشباب الكتلة الاسلامية، في جامعة الخليل،فقد عرّفني شقيقي عليه..ومنذ ذلك الوقت ،دخل هذا الرجل قلبي،واحتل فيه مكانة خاصة.
اللقاء الثاني، الذي جمعني به، كان في قريتنا “دير السودان”، إذ جاء معزّيا،بل مهنّئا، باستشهاد اخي “امجد”في شهر رمضان من عام “1989” ،على راس ثلة من رجال خليل الرحمن الأفاضل الكرام ،وقد كان لكلمة التابين ،التي القاها وقعا طيّبا على نفسي،خفّفت من مصابي،إذ كانت كلماته تلامس القلب،وتنعش الروح..وعندما اراد المغادرة، اختلى بي قليلا، وقال لي:شقيقك”امجد” ،كان مشروع شهادة مذ تعرّفت عليه ..لا تحزن.. امجد-بإذن الله- شهيد، والله اصطفاه لأنّه يحبه..وسيكون لكم شفيعا بإذن الله يوم القيامة..
شاءت الأقدار ان يكون لقاؤنا الثالث ،في زنازين التحقيق ،في سجن جنين المركزي عام 1991 ،حيث تلقّت حركة حماس، ضربة واسعة طالت المئات من قيادات وكوادر الحركة،من رفح حتى جنين،والتي عرفت بضربة “المكاتب الإدارية”، اثر عملية “يافا” بتاريخ 14\12\1990،التي نفّذها مجاهدان من أبناء الحركة هما:”اشرف البعلوشي”،و”مروان الزايغ”،والتي إدّت إلى مقتل ثلاثة من المستوطنين الصهاينة. وقد تعرّض الشيخ ،وعلى مدى أكثر من خمسين يوما،لتحقيق قاس وأليم ،لا يطيقه بشر،وقد وصل عدد المحقّقين الذين يحقّقون معه، في بعض جلسات التحقيق -كما أبلغني- أحد عشر محقّقا،إذ كان هناك قرار بتصفيته جسديا، لولا لطف الله.،وقد حصلت معه أثناء هذا التحقيق ،كرامات عديدة اذهلت محقّقيه من الصهاينة،لا يسمح المجال هنا لسردها،واستطاع بفضل الله هزيمة جهاز الشاباك الصهيوني، ولم يستطيعوا الحصول منه على أيّة معلومة ..وقد خرجت أنا وإيّاه من مركز التحقيق في سجن جنين المركزي، إلى معتقل الفارعة ، وهناك حصل منه مواقف،لا زالت بالنسبة لي مدرسة تربوية، أنها من معينها..أدب جمّ..تواضع ..إيثار..محبّة فيّاضة لإخوانه…معنويات عالية، رغم المعاناة القاسية..ولا زلت أذكر كيف سالت دموعه على لحيته،عندما رأى إخوانه من مشايخ الخليل،قادمين من مراكز التحقيق، إلى معتقل الفارعة،وآثار التعذيب بادية على وجوههم، وشعر رؤوسهم منفوش، لإنه لم يحلق،منذ ما يقرب من شهرين،فقال لي: انظر كيف فعل المجرمون بأفاضل الخليل..وقد علمت فيما بعدمن بعض الإخوة، أن الذي سالت دموعه حزنا عليهم، ومحبة وإعزازًا لهم ،كانوا هم -وتحت سطوة التعذيب الاجرامي الذي لاقوه في التحقيق- من ذكروا اسمه في التحقيق،وفي قضايا لا علاقة له بها،وانما ذكروه من أجل أن يحميّ الحركة،ويحفظ اسرارها، ويوقف مسار التحقيق عنده، وهذا ما كان.
اما اللقاء الرابع بهذا الرجل، فكان في مدينة رام الله ،عندما سكن فيها كإقامة جبرية فرضت عليه فيها،بعد خروجه من سجن الأمن الوقائي والذي حجز فيه لاكثر من ثلاث سنوات عانى فيه -هو واخوانه-ما عانى من أبناء جلدته،وخرج منه مع بداية انتفاضة الاقصى،وقد تعرّفت أثناء زيارته في بيته ،حيث كان سكنه قريبا جدا من بيتي في ضاحية “عين مصباح” على “محمد جمال النتشة” الإنسان،البارّ بأمّه .لقد كان حريصا على إن يخدم أمّه بنفسه ،يحضّر لها قهوة الصباح،ويقوم بإيصالها إلى بيت الخلاء،ويقوم بتغسيلها، وتمشيط شعرها ،ورشّها بالعطر الفاخر،كما يقوم بالنشيد والغناء لها، كما يقوم باصطحابها، والمشي معها يوميا في حديقة المنزل، الذي يقيم فيه،ويحرص على إطعامها بيده..كنت أشعر أنه يتلذّد بخدمتها ،وبرّها،ويشعر بسعادة غامرة ،وهو يقوم بذلك..وبكل امانة وصدق ،اقولها :اإنه كان مدرسة- بكل ما تعني الكلمة -قي برّ الوالدين..
اما لقائي الخامس بهذا الرجل، فقد كان في معتقل النقب الصحراوي ، إذ جمعتني وإيّاه خيمة واحدة ،وكنا متجاورين في ” الأبراش”، وتعرّفت في هذا السجن ،على “محمد جمال النتشة” القائد،وصاحب الرؤية المتزنة،الواعية،الواثقة ،الحكيمة .. كان دائب التفكير بمصلحة الدعوة ومستقبلها.تعرّفت على كرم هذا الرجل وجوده ،وخدمته لإخوانه، إذ كان حريصا على خدمتهم بكل ما أُوتي من امكانيات،وكان يصرّ يوميا على أن يكرمنا بشرب القهوة من عمل يديه..كانت روحه، روح شباب،يحبّ الرياضة،ويحبّ النكات،وابتسامته وضحكاته دائما حاضرة لا تفارق محيّاه..ولذا كان الشباب متعلّقين به إلى درجة العشق..ليس شباب الحركة الإسلامية فحسب ،بل من كل المشارب السياسية والفكرية.. كان يعشق القرآن، ويتغنّى به، ويتلوه بخشوع ،وتدبّر ، ولا يملك من يسمع تلاوته للقرآن ، إلاّ أن يخشع لخشوعه..
هذا الرجل ،ومنذ اعتقاله الاول عام 1988، وإلى الآن ،قضى ما يقرب من عشرين عاما في الأسر والإبعاد..
وكما قال له الأوغاد الصهاينة لن نسمح لك أن تبقى خارج السجن، إلاّ شهورأ معدودة..وهو بمثابة المحكوم بالمؤبّد ولكن بالتقسيط،في محاولة من قبل المجرمين الصهاينة للنيل منه، وكسر إرادته !
اليوم الشيخ “محمد جمال النتشة” يتنسّم عبير الحرية،والتي نسأل الله أن يطول أمدها..حفظ الله هذا الرجل،وابقاه ذخرا لدينه ووطنه وامته،وابعد عنه كل أذى وسوء!

*كاتب فلسطيني

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق