تقارير و تحليلات

التأهيل السياسي للصوفية في مواجهة الإخوان والسلفية

مثّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ،علامة فارقة في تحوَل اهتمام الغرب، نحو التصوّف، ودوره السياسي في المجتمعات الإسلامية ؛ إذ بدأت تتعالی أصوات الباحثين الغربيين، بضرورة إحياء التصوَف للحّد من تأثير « الإسلام السياسي » ، وكان “برنارد لويس” و”دانييل بايبس”، على رأس الداعين إلى عقد تحالف مع الطرق الصوفية، لملء الساحة الدينية والسياسية، وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة . اتّجهت نحو هذا التوجّه، مراكز البحث الأميركية المقرَبة من الساسة، نحو حثّها للتقارب مع التصوّف، ليخرج إثر ذلك عدد كبير من التوصيات، والتقارير الداعية، إلى ما يمكن وصفه بـ “تصوّف أميركاني”! وعلى رأس تلك القائمة، وقفت مؤسسة (راند) لتطوير السياسات العامة، ومركز (نكسون) للدراسات، ومعهد الولايات المتحدة للسلام، ومؤسسة (كارنيجي) للأبحاث.  ففي صيف عام ۲۰۰۲م ، أصدرت مؤسسة « راند »، دراسة دعت فيها إلى تأسيس تحالف إستراتيجي مع الصوفية، لمواجهة التطرَف الديني في العالم الإسلامي ، تلاها استضافة مركز (نکسون) في واشنطن، لمؤتمرمن أجل استكشاف دور الصوفية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية . كان الغرض من المؤتمر الذي استضافه مركز “نيكسون”، تعريف صنّاع القرار في الإدارة الأمريكية، بالدور الذي يمكن أن تمارسه الطرق الصوفية في الحقل السياسي ، إلا أن الحديث تحوَل إلى مناقشة حول آليات القضاء على الفكر : « الوهابي- السلفي »، وذلك من خلال تنشيط الحركات الصوفية، واستخدامها في مواجهة هذا الفكر، الذي نسبت إليه جميع الحركات الإرهابية في العالم الإسلامي . كان ضيفا الشرف في هذه اللقاء : البروفسور برنارد لويس، ومحمد هشام قباني نائب زعيم الجماعة الصوفية النقشبندية ، وتم تعريف قباني، على أنه داعية وسطي يقف ضد الإرهاب ، وأنه : « أول زعيم مسلم يحذّر الولايات المتحدة من تهديد محتمل مخطَط له من أسامة بن لادن، ومنظمة القاعدة الإرهابية » . وفي كلمته ؛ شبّه برنارد لويس الوهابية، بحركة « کوکلکس کلان » المتطرَفة في أمريكا ، وعقد مقارنة بين الحركة المسيحية المتطرّفة، التي اضمحلت في أمريكا، مقابل الوهّابية، التي تحوّلت إلى مذهب سائد في السعودية، بعد أن هيمن أتباعها على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، وحصلوا على مصدر إمداد سخي في إيرادات النفط ، مما أدّى إلى : « تحويل أحد أكثر الأفكار جنونأ في تاريخ العالم الإسلامي إلى حركة مركزية فاعلة في قلب العالم الإسلامي » !  وطرح لويس سؤالا محوريا : « هل نحن كأمريكيين ( ! ) سنقف مع الصوفية، أم سنعمل مع الوهابية ؟ » ثم أجاب بقوله : « إذا عملنا مع الوهابية، فإننا سنخاطر بالتعامل مع الإرهابيين ، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية، أن تمدّ الجسور مع المسلمين غير الوهابيين، لتحقيق النصر في معركتها ضد الإرهاب ». ،وعلى الرغم ممّا تضّمنه هذا اللقاء، من نظرة أحادية ذات طابع عدائي ؛ إلا أن المحاور التي تقدّم بها المتحدَثون قد تحوّلت إلى برنامج عمل خلال  الخمس عشرة سنة الماضية، ومنذ ذلك الحين، بدأت عملية التحشيد السياسي للطرق الصوفية العابرة للحدود ، إذ عقد المؤتمر العالمي للطريقة الشاذلية في شهر أبريل 2003 بالتعاون مع منظمة اليونيسكو. بينما أعلن في العراق، تأسيس « الأمانة العليا للإفتاء والتدريس والبحوث والتصوف الإسلامي » في يناير 2004  ، وعقد في شهر سبتمبر من العام نفسه، المؤتمر الأول لمجموعة « سيدي شیکر العالمية للمنتسبين إلى التصوف »، تحت رعاية الملك محمد السادس ، تبعه « المؤتمر العالي الأول للطرق الصوفية بغرب أفريقيا في شهر ديسمبر 2004 ، في حين أقامت الجماهيرية الليبية مؤتمرا دوليا ( سبتمبر 2005 ) بعنوان : « الطرق الصوفية في أفريقيا : حاضرها ومستقبلها » . وقد تقاطع هذا التوجّه الجديد مع مسار عدد من المؤسسات الدينية البارزة في الدول العربية، فمنذ الاستقلال، اتَجه عدد من قادة الدول العربية، نحو التوجّه الصوفي، لينطبع ذلك على عدد من المؤسسات الدينية الحكومية، والتي برز على سلوكها الطابع الصوفي في الشعائر العامة، مثل الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والقيروان في المغرب، وهو ما ساعد في توطيد حبال الصلة بين التصوَف والدين الرسمي للدولة، وشكّل صورة أكثر قابلية للتسييس الصوفي. لكن التأسيس الحقيقي والفعلي للتوجّه الجديد، كان في أبوظبي، حيث عمل ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد، على إدماج الشأن الديني في الأمن الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة، باعتبار المذهب المالكي والنهج الصوفي، جزءاً من الهوية الوطنية لجميع إمارات الإتحاد. وقرَر تأسيس تحالف صوفي عالمي، يجاهر أقطابه باستهداف المملكة العربية السعودية، ومرجعيتها الدينية على حد سواء ؛ وقد دّشنت أبوظبي أولى معالم هذا المخطَط بتأسيس مؤسسة « طابة » عام ،2005 التي جمعت زعامات التصوف، السياسي من الشام والمغرب واليمن ومصر في مشروع هجين . وقد اهتمت “طابة” بعقد الفعاليات الدينية الموجّهة للغرب، مثل محاضرات حمزة يوسف، عميد معهد الزيتونة، بعنوان “الإسلام في الغرب”. وشاركت في مؤتمرات جمعية “الطريق الوسط”، وهي جمعية صوفية في لندن. وبالتوازي مع هذه الفعاليات الممتدة، لم تنس المؤسسة، إثارة سجالات مع أفكار الوهابية بعدد من الدراسات، وهو ما أجّج النقاشات العلمية بينها وبين السلفيين، وعلى الرأس من ذلك، دراسة جهاد براون التي نشرتها المؤسسة، حول هدم الأضرحة في ليبيا. ومنذ 2013، تعّزز حضور المؤسسة حول العالم، وقد مثّل مؤتمر الشيشان، الذي دعمته المؤسسة مع القيادة الدينية في الشيشان تحت رعاية حاكمها، أهم حدث للصوفية بهيئاتهم المختلفة حول العالم، وهو ما رآه البعض، محاولة لتدشين مرجعية سُنيّة جديدة حول العالم. وفي استكمال لمخططها، بتأسيس تحالف صوفي يواجه التيارات السلفية، قامت أبوظبي في عام 2014 بتأسيس منتدى “تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية”، الذي رأسه عبد الله بن بيه. وقد قدّم المنتدى نفسه باعتباره “ملتقى عالميا للسِّلم، ونبذ العنف في المجتمعات الإسلامية، لنشر الفهم الصحيح للدين والمنهجية السليمة للتدين”. وعلى الرغم من كثافة حضور المنتدى، الذي قدّر بنحو 250 مشاركاً من مختلف الدول، وعدد الأوراق التي ناهزت الثلاثين؛ إلا أن الأسماء الكبيرة قد غابت عن المشاركة، وبدا وجود المملكة العربية السعودية باهتاً، إذ اقتصر الحضور على دعوات فردية لشخصيات تنسجم مع توجهات المنظّمين، وهو ما دفع شخصيات لها اعتبارها ووزنها الثقافي والديني إلى الانسحاب، فقد فجّر رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الشيخ عبد الرزاق قسوم، أحد أبرز المشاركين في المنتدى “قنبلة”، بالقول إن مشاركته لم تكن إلا نتاج “خدعة” تعرَض لها. وقال قسوم: إنه دعي إلى مؤتمر للعلماء فإذا به أمام “لقاء سياسي مشبوه”.
وبالتزامن مع انعقاد المنتدى، شنّت الصحافة الإماراتية هجوما كاسحا على ما يسمى بحركات الإسلام السياسي وربطها بالسعودية، فقد نقلت الصحف الإماراتية عن علي النعيمي، رئيس جامعة الإمارات، لمزا لسياسة السعودية، قبل تقاربها مع الإمارات، جاء فيه: “كانت المملكة العربية السعودية في الماضي هي الحاضنة للإخوان المسلمين في كل التداعيات والأزمات”. وهو ما جعل المنتدى ورواده محلّ اتهام، من تمثيل أجندة أبوظبي الثقافية الجديدة. فقد “ساهم القائمون على المؤتمر في تعزيز حالة الاحتقان تجاه المؤسسات الدينية السعودية؛ حيث هاجم الشيخ عبد الله بن بيه مؤسستي الفتيا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية، معتبرا أداء هذه المؤسسات سببا في الانحرافات التي تغّذي التطرّف”، ونُشرت تقارير، تتحّدث عن دعوات لمواجهة الطوفان الديني السلفي، الذي ظلّ يتدفق علينا منذ نهاية الخمسينيات.  وأما البيان الختامي للمؤتمر، فقد نصّ على: “أهمية إعادة تثبيت سلطة المرجعية في الأمة!”. وبعبارة أخرى: “تأسيس مرجعية جديدة للأمة”، بعيدا عن الإسلام الحركي الإخواني والسلفي الجهادي، وإنما بإسلام صوفي مدعوم من أبوظبي. وللمرة الثالثة، ومن أبوظبي أيضا، خرج مجلس “حكماء المسلمين”، والذي جاء بمبادرة مشتركة بين أحمد الطيب، شيخ الأزهر، والشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم. لينفرد الطيب -فيما بعد- بمنصب الرئيس للمجلس، بعد شراكة استمرت ثلاثة أشهر. وقد جاء الإعلان عن تأسيس “مجلس حكماء المسلمين”، كأول كيان مؤسَسي جامع لحكماء الأمة الإسلامية، تنفيذا لما خرج به المشاركون في منتدى “تعزيز” السلم في المجتمعات المسلمة من توصيات المؤتمر الختامي. رأى المراقبون أن هذا المجلس، يمثَل “محاولة لتأسيس مرجعية سُنية جديدة حول العالم”، يقودها أحمد الطيَب باسم الأزهر، وقد غلب الأعضاء الأزهريون على أعضاء المنتدى، إذ بلغوا سبعة أعضاء من أصل أربعة عشرعضواً، وتم استبعاد كل الشخصيات، التي يمكنها منافسة أحمد الطيب من رئاسة المجلس بما فيهم بن بيه، لينفرد الطيب برئاسته. ويرى الكاتب والباحث في شؤون الشرق الأوسط “جيمس دروسي”، أن الإمارات دعمت تأسيس مجلس حكماء المسلمين ،(MCE) لتعزّز قبول المسلمين السنَة بالطاعة للحاكم، لمواجهة اتحاد علماء المسلمين في الدوحة، الذي كان يقوده الشيخ « يوسف القرضاوي»، الذي يعّد أبرز علماء الدين في العالم الإسلامي. وأقرّ المجلس إنشاء فرق سلام لزيارة مناطق النزاع، وسيعمل المركز وفق الفكرة الرئيسة، التي تحّدث عنها “دروسي”، وهي طاعة الحاكم، وعدم الخروج عنه، وتجريم المظاهرات، ورفض إبداء حرية الرأي والتعبير. ووفق عرض المؤسسات المختلفة، تتبدَى ملامح التقاطع بينها جلية، فالتحالف بين أهل “طابة” و”منتدى تعزيز السلم” و”مجلس الحكماء” يجمعهم قاسم مشترك متمثَل في الاصطفاف ضد الحركات الإسلامية، وعلى الرأس منها تيار الإخوان المسلمين. وبالارتكاز على التمويل الإماراتي، تنطلق تلك المؤسسات معلنة حيازتها الفهم المعتدل، وواسمة ما سواها من التيارات باعتبارها حائدة عن جادة الحق.  وبهذا يبدو الدافع لسعي السلطة السياسة نحو السيطرة على مؤسسات الدينينة والفكرية، عاملاً مهماً لفهم أسباب صعود بعض التيارات الدينية على حساب أخرى، منسجمة بذلك مع القوى الاستعمارية، ورؤيتها لدور الدين، وكيفية استثماره بما يحقَق مصالحها، ويعزَز نفوذها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق