مقالات

إبادة الأرمن.. عندما يُكتب التاريخ بالحبر الأبيض!

شعبان عبدالرحمن*
لاأدري، كيف وقف الرئيس الأمريكي بايدن – على عكس الرؤساء السابقين كافة – أمام الكاميرات ليطلق اتهاماته للدولة العثمانية بارتكاب “إبادة جماعية “بحق الأرمن قبل أكثر من قرن من الزمان، دون أن يتزاحم على ذاكرته، سجّل بلاده المليء بالمجازر والإبادة الجماعية، لما يقرب من ثلث شعوب الكرة الأرضية،وبما يجعل ما حدث للأرمن، يتوارى خجلا ،أمام ما اقترفه الرجل الأبيض – ولا زال – ممثّلا في أمريكا.
ما أقدم عليه الرئيس الأمريكي “الوديع” ،لم يكن – أبدا – بفعل ضعف الذاكرة، وإنما بفعل عنصرية الرجل الأبيض ،الذي مازال يظنّ أن من حقه وحده كتابة التاريخ، وقلب حقائقه، بل وفرض حقائق جديدة ،لا تمتّ للضمير الإنساني بصلة، وهو ما دعا الناشط الهندي الأحمر مايكل هولي إيجل للقول: “تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض..إن أول ما يفعله المنتصر، هو محو تاريخ المهزومين.. ويا الله، ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض!
وقال الكاتب منير العكش: “لقد تمّت إزاحة المذابح من الذاكرة الأمريكية، حتى بات مستقرا في الذاكرة الأمريكية عندما يُذكر لفظ “الإبادات الجماعية” في المدارس الأمريكية؛ ينصرف ذهن الطلاب إلى محرقة الهولوكست، أو مذابح الأرمن، أو السوفييت، أو البوسنة والهرسك،لكن لا يتم التفكير أبدا في المذابح التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية”.
وهكذا، يتم مسح التاريخ، ومسخ ذاكرة الشعوب،وتصنيع تاريخ آخر وفق نزوات ومشاريع وأطماع الرجل الأبيض، التي تمثّل أمريكا الصورة الفجّة منه اليوم.
بل إن التاريخ الذي يتم تلقينه للأجيال في أمريكا عن الهنود الحمر ،حافل بالاستخفاف والاستهزاء، والإقرار بأنهم لا يستحقون الحياة.. “فقد استمرت سياسة تنميطهم في الإعلام الأمريكي حتى تسعينيات القرن العشرين، بل حملت عشرات الأفلام الكرتونية – وفق الكاتب أحمد دعدوش – الموجّهة إلى الأطفال رسائل الإساءة والتنميط ،التي يبدو فيها السكان الأصليّون على هيئتهم البدائية نفسها التي كانوا عليها قبل أربعة قرون”.
وليت الذي ذكّر الرئيس بايدن بتلك الإبادة (1915م) ،بعد مرور مئة وستة أعوام؛ عشقه لحقوق الإنسان والانتصار لها، وإلا لتحرّك ضميره أمام عشرات المجازر والإبادة التي يعرفها جيدا، ويشيب لها الولدان.
إنه الابتزاز السياسي، والمتاجرة بحقوق الناس ودمائهم في قضية تهزّ مصداقيتها العديد من الوقائع والحقائق، بل وقد أثبتها أحمد عبد الوهاب الشرقاوي، الكاتب المتخصّص في التاريخ العثماني، في كتابه الموثّق “مذابح الأرمن ضد الأتراك في الوثائق العثمانية والروسية والأمريكية”، الذي صدرت النسخة الأولى منه عام 2016م،وحظي باهتمام كبير لدى الباحثين عن حقيقة مزاعم الأرمن، وحقيقة الاتّهامات الموجّهة لتركيا.
ويضمّ هذا الكتاب 89 وثيقة عثمانية، وتقريرين عسكريين روسيين، وتقريرا للجنة برلمانية تابعة للحكومة الأمريكية، دحضت الادّعاءات والاتّهامات الموجّهة ضد تركيا في ما يتعلّق بما يسمّى “مجزرة الأرمن” المزعومة.
وليت الرئيس الأمريكي،قد عاد إلى تقرير اللجنة البرلمانية الأمريكية، قبل أن يطلّ على العالم متحدّثا في هذا الموضوع،فموضوعية رئيس أكبر دولة في العالم مطلوبة، لأنها تصبّ في جلب الاحترام لبلاده، وليته ما تحدّث وحذا حذو سابقيه؛ لأن فتحه لهذا الموضوع يفتح على الولايات المتحدة، سجلاّ متخما بالمخازي والإبادات ،بحق ما يقرب من ثلث شعوب الأرض، ومنها على سبيل التذكير:
• الإبادة الجماعية لـ95 في المئة من الهنود الحمر، تراوحت في بيانات الباحثين بين 10 إلى 70 مليونا، وتمّت بصورة منظّمة ومخطّطة جيدا وبمشاركة بريطانيا (باحثون).
• الإبادة الجماعية بالقنبلة النووية لهيروشيما ونغازاكي (اليابان).
• إبادة ما يقرب من مليون و500 ألف مدني في الفلبين (لجنة التحقيق بالكونغرس).
• إبادة خمسة ملايين فيتنامي، منهم أربعة ملايين مدني أعزل (إعلان رسمي من فيتنام عام 1995م).
• الإبادة الجماعية للشعب العراقي (أكثر من مليوني إنسان).
• الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني بالسلاح الأمريكي على يد الصهاينة (أكثر من 250 مجزرة، من سوق حيفا 1937م حتى مجازر غزة).
• الإبادة الجماعية للشعب اللبناني بالسلاح الأمريكي على يد الصهاينة، في عشرين مجزرة تمّت خلال 54 عاما (1948م- 2006م).. من مجزرة “مسجد صلحا، حتى مجزرة “قانا الثانية”، بسلاح أمريكي.
• الإبادة المستمرة ،تحت رحى ما تسمّى “الحرب على الإرهاب”، بحق المدنيين في العراق وباكستان وأفغانستان واليمن والصومال، ويتخللها اغتصاب نساء ورجال وقتل أسرى حرب (اتهام من منظمة هيومن رايتس ووتش).
وبعد..
إنها ديمقراطية الدماء ،التي تجعل لسان حال الشعوب المكلومة ينطق قائلا؛ “إن جلّادنا المقدّس واحد”!

*كاتب مصري

(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق