تقارير و تحليلاتعام

لماذا تحوّلت أزمات “النيجر / مالي / بوركينا فاسو / تشاد / السودان” إلى أزمة عالمية؟

بقلم : أنس حسن*
كل هذه الدول تقع في نطاق جغرافي يسمّى “الساحل والصحراء”.. وللمفارقة أن مجرد نطق هذا المصطلح دليلا على عمق الأزمة.
فلو لاحظنا الطبيعة الجغرافية لهذه المنطقة ،لن تجد بحرا لتصبح تلك الدول مشاطئة له تحت مسمّى “الساحل” .. وإنما بالبحث والتمحيص تجد أن المصطلح تسلّل للغربيين تحت مسمّى “السهل والصحراء” ، ثم أعيدت ترجمته من “Sahel” إلى كلمة “ساحل”.. ليكون “مشاطئا للصحراء الكبرى..
وهذا من اختراق التغريب للانتلجنسيا العربية، التي تنسخ كل ما جاء في الموسوعة الغربية، ثم تجعج بها دوما..
أما لماذا انطلقت من مصطلح “السهل” هنا والتأسيس عليه؟.. فلأنه سيكون شارحا لكل شيء لاحقا، فأحيانا تحرير المصطلحات في السياسة كما “الفقه والقانون” يعد مدخلا للتفسير والحكم لاحقا..
فالمنطقة بالفعل تشكل “سهلا” جغرافيا.. يمتد من دارفور غربا، وحتى نهايات دولة مالي.. بل وحتى موريتانيا والصحراء الغربية أو المغربية حسب كل وجهة نظر سياسية..
وهذه المنطقة لا تميّزها منذ فجر التاريخ وجود “وحدات سياسية” يمكن أن يطلق عليها “دول”، كما في مصر أو المغرب مثلا، بل كانت دوما ممالك وسلطنات قبلية ودينية وعرقية، وكثير منها متنقّل ومرتحل، وتنبني علاقاتها فيما بينها حربا وسلما.. ليس على قاعدة الجغرافيا بقدر ما تعنيه في تعريفات الهوية “القبيلة / العرق / الدين”..
وهذا “السهل” هو بلا حدود أو ملامح جغرافية، يمكن أن تشكّل حدودا بين الدول تعزّز هويتها أو تمنع من التنقّل الكثيف والتغيّرات الديموغرافية الكبرى، وعليه نجد أن الامتدادات القبلية في غرب السودان.. لها عمق يمر بتشاد والنيجر ويصل لأطراف موريتانيا، دون أن تشعر بتغيّر كبير بين هذا المكوّن ثقافة وطباعا بل ولغة..
الاستعمار وصناعة الأزمة:
حين أتى الاستعمار، لم يبنِ الحدود والدول في منطقة “السهل” على أساس البنيات التاريخية أو القومية، لينتج ما يسمى بالدولة الحديثة، بل رسم الحدود لتعزيز نفوذه ضد مستعمر آخر، وليبني نطاقات هندسية من خطوط الطول والعرض، يمكن أن يؤسّس داخلها دولا تغطّي سرقاته للثروات والموارد في قالب سياسي يحمل توقيع المشروعية..
وكذلك ليقدّم نفسه للبنية الدولية على أن هناك شرعيات سياسية في هذه المناطق، وبالتالي أصبحت البنية السياسية لهذه الدول لا علاقة لها كبيرة بجذور المصلحة الوطنية.. هذا إن وجدت ما يسمى بالبنية الوطنية هناك، بل نحن أمام طبقة “جسرية” بين المستعمر والدولة المصطنعة، تمر من خلالها المصالح والثروات.
وفي حال جاء مكوّن “قبلي” أو عرقي، يمتلك نزعة استقلال أو حدثا في بنيته تهالك أو ضعف، يمكن بسهولة استبداله بآخر، عبر النخبة العسكرية المدربة استعماريا، والمثقفة استعماريا، وبالتالي تظل الدولة هناك عبارة عن طبقتين، طبقة متصلة بالمركز الاستعماري، وطبقة مستغلة من قبل الاستعمار عبر “الآلة الوطنية” للدولة..
وهكذا ضمنت تلك البنية المسماة “دولة” في منطقة “السهل”.. نفوذا دائما للمستعمر، وواجهة وطنية للعمالة، ومع نفاذ صلاحيات الواجهة، يتم استبدالها بأخرى.. وهكذا أصبح تداول السلطة في هذه المنطقة انقلابات عسكرية تشرف عليها شبكات “فرانس أفريك”

ليبيا والجزائر ومصر، ونفوذ حركات التحرر:
لعبت حركات التحرر في الجزائر وكذلك مصر الناصرية، وليبيا القذافي، دورا مهما جدا في تثوير هذه المنطقة وتصعيد نزعات التحرر الوطني والبحث عن هوية “ضد استعمارية”، ودعمت هذه الدول ومن قبلها الاتحاد السوفيتي، خلق نزعات تحرريّة تقوّض النفوذ الغربي ونجحت في زرع البذرة، على الرغم من أنها انتجت مستبدين لا يقلّون خطورة، لكنهم صنعوا بنى وطنية أولية..
بعد انهيار “ليبيا” تحديدا، وانكفاء الجزائر، بدأ ملعب “السهل” تنمو به أعشاب بعيدة المنشأ، سريعة النمو، متمثّلة بنفوذ روسي وصيني، وكذلك تطّلع أميركي “منافس لفرنسا” هنالك..
عنوان هذا التنافس الظاهر “الأمن والإرهاب”،، ولكن باطنه الثروات والمعادن والطاقة.. وبحث النخب الرأسمالية والشركات عن بديل “للاحتياطات” التي يأكلها الكساد والتضخّم في الغرب المتأزّم اقتصاديا، وهي لعبة طالما أجادتها فرنسا، وتعلّمتها بقية النخب الرأسمالية سريعا..
أما دخول روسيا وفاغنر، فهو فتح استراتيجي لملعب جيوسياسي، ونقل جزء من الصراع الذي كان الغرب يضعه على حدود “روسيا الغربية” إلى جنوب المتوسط ومناطق الإمداد المعدني والطاقوي في منطقة السهل، والتي عبرها يمكنها النفاد للمناطق الاستوائية جنوبا، وكذلك التأثير في مناطق النفوذ شمالا، وربط معادلة جيوسياسية تبدأ من ساحل البحر الأحمر، وتنتهي في الأطلنطي، وتمتلك رأسا مدبّبا عبر ليبيا نحو المتوسط، وتمتلك جيوب ضغط على دول الشمال الكبيرة..
هذه معادلة ليست هيّنة،، وهي إن استمرت ستشكّل ملعبا عالميا قادما للاقتصاد والأمن والطاقة.. وإن وعت الشعوب في تلك المنطقة حجم الفرص وحجم الخطر، واستفادت من التوازنات الجديدة، ستخرج للعالم فاعلين جددا على الساحة خلال ال ٥٠ سنة المقبلة..
وأخيرا.. يمتلك العرب في تلك المنطقة ترسانة من النفوذ.. إمّا عبر القبائل العربية الفاعلة والنافذة، أو عبر قبائل البربر الممتدة من الشمال للجنوب، أو عبر مراكز التصوّف والتديّن الإسلامي والمسيحي أيضا..
ويمكن استثمارها بشكل كبير لصناعة نفوذ واسع وتحالفات مؤثّرة ومفيدة .

* كاتب وصحفي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق