د. سعيد وليد الحاج*
في الطب، ولا سيّما في الجراحة، ثمة حالة من اللامبالاة الظاهرية، والتأقلم مع الدماء وأشباهها. يتبلّد إحساس الطبييب أو الجراح مع الوقت، ويبدأ بالنظر للمريض على أنه “حالة”.وليس ذلك لقلّة اهتمام به أو احترام له،ولكن حرصاً على اتخاذ القرار الأسلم في كل وقت، وعدم الوقوع في الخطأ ،تحت ضغط العاطفة ،التي يمكن أن تجحب عن العقل القرار الأصوب في لحظة ما، لا سيّما في الطوارئ والعمليات الجراحية.ولذلك مثلاً لا يجري الجراحون عمليات جراحية لأقاربهم، لأنهم لا يستطيعون الحفاظ على نفس هذه المسافة مع أقاربهم من المرضى.
مع كل هذا – الذي يعرفه معظم الناس – ما زلتُ أرى بعض النقد أو التحفّظ الضمني على ذلك من الأقاراب والأصدقاء، وذلك أمر أتفهّمه.فما بال من تبلّد عنده الحس، وتحوّل لوحش عاشق للدماء دون أي مسوغ قانوني أو أخلاقي؟
كيف يمكن لإنسان أن يعذّب إنساناً آخر ،فضلاً عن أن يقتله ،دون أن يرف له جفن، بل وربما يتمتّع بذلك الصنيع الشائن؟
لعلّه إحدى خاصيات أجهزة الأمن والشرطة في بلادنا، وبعض البلدان الشبيهة.
كيف يحصل ذلك في فلسطين؟ تلك البلاد المحتلة ،التي يفترض أنها في مرحلة تحرّر وطني ،وعلى يد سلطة “وطنية” تجاه بعض أبنائها؟ يبدو الأمر غاية في الغرابة والتناقض،لكن أسبابه واضحة والكل يعرفها وإن لم يقلها صراحة:
1) الفلسطيني الجديد ،الذي عملت أوسلو على صنعه ،والعقيدة الأمنية الجديدة التي غيّرت تعريفات العدو والخصم والصديق.
2) تحوّل “حركة التحرر الوطني”،إلى “حزب سلطة،” وتشبّه هذه السلطة بأقسى وأقذر الدكتاتوريات العربية.حديثاً سألني أحد الأصدقاء عن سبب تهنئة محمود عباس لبشار الأسد بعد مسرحية الانتخابات، لكنني لم أكن مستغرباً لعدة أسباب.
لم يكن المرحوم نزار بنات “إرهابياً” ولا “جهادياً” قضى في “اشتباك” مع قوات الأمن التي أتت لاعتقاله، ولا كان خصماً خطيراً للسلطة وحزبها الحاكم في انتخابات أو غيرها كالفصائل “الإسلامية” الأخرى، ولا حمل السلاح، ولا أثار فوضى مجتمعية، ولا فعل جناية اخرى، على الرغم من أن كل ذلك حتى لو صح لما كان مسوّغا لقتله بهذه الطريقة.كل ما فعله نزار بنات ،أنه كان صاحب صوت مرتفع في النقد، لم يهادن ولم يجامل، وقال ما يدور في خلد الكثيرين – المعظم ربما – الذين لا يستطيعون أو لا يريدون قوله، كلٌّ لأسبابه الخاصة الوجيهة أو المتوهّمة أو الكاذبة.
حين لا تأتي الأحزاب الحاكمة باختيار شعوبها، ولا تمثّلها فكراً ولا خطاباً ولا ممارسة، لا تكون ثمة خيارات عدة أمامها. فإما أن تخضع للشعب، أو تقمعه. ولعلّة لا نعرفها ، تختار الأنظمة عادة القمع والقتل وكل الأفعال التي على نفس هذا الوزن، على أمل وبثقة أن يخيف ذلك الجميع. لكن هذا الغباء يثبت فشله كل حين في بلد ما، حيث ثمة نقطة تأتي عندها الأفعال السلطوية والقمعية بنتيجة عكسية، وهذا ما يخشاه كل نظام وأي نظام.
قُتل نزار بنات، بسبب كلام قاله، مع قرائن واضحة على تعذيب حصل، فضلاً عن اللاإنسانية في ظروف الاعتقال. ثم أعلن “رئيس الحكومة” عن تشكيل لجنة تحقيق في الموضوع. وهنا تحضرنا جميعاً أسئلة معروفة الإجابات:
*هل عزل اشتية أي مسؤول أمني من موقعه لحين انتهاء التحقيق؟
*هل أوقف أو سجن من اعتقلوا بنات و/أو عذّبوه؟
*هل يمكن ان نثق بتحقيق تقوم عليه السلطة نفسها؟ بمنطق فيك الخصام وانت الخصم والحكم؟
*هل ننتظر نتيجة تحقيق مشابهة لنتيجة التحقيق في قتل أبو عمار؟
*كيف يمكن أن نواجه وحشية الاحتلال بعد اليوم ،وماذا نقول للعالم بعد حادث كهذا؟
هل باتت فعلاً الدماء – وبهذا الشكل الوحشي -،بل وأصبح الوطن برمّته أضحية على قربان المصلحة والراتب والعصبية الفصائلية؟
تبّا لمحمود عباس ،الذي لم يكن يوماً من نسيج شعبه، بل كان يسخر من كل ما يحترمه ويختاره شعبه،
وتبّا للأجهزة الأمنية التي صُنِعت على عين الكيان الصهيوني ،والولايات المتحدة، وأجهزة المخابرات العربية.
وتبّاً لكل سحّيج وصاحب مصلحة ومنافق ومجامل في لحظة فارقة كهذه.
وتباً لأي سياق سياسي لا يسمّي الأمور بمسمّياتها، وكلَّ طرف بالتوصيف الذي يستحقه.
وتبّا لنا كشعب إن بقيت حالنا بعد ما حصل – وبعد كل ما يحصل منذ سنين – على حالها، وبقي بعضنا يقدّس “الثابت على الثوابت”، عفواً أقصد الراتب أو الرشوة التي باع نفسه بها.!!!
رحمك الله يا نزار،عشت حراً ،ومضيت كريماً، وشاهداً على خسة قاتليك.
*كاتب فلسطيني
(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)