مقالات

حرب أوكرانيا ومستقبل المحطة النووية

بقلم : د. محمود جيلاني*
منذ أن اكتشف اينشتاين أن انشطار الذرة ينتج عنه طاقة هائلة، بدأ الجميع في السعي لامتلاك هذه الطاقة ،إما في صورة أسلحة نوويّة، أو في صورة محطات نوويّة لتوليد الكهرباء من الطاقة الحرارية الناتجة عن الانشطار .
وبعد اكتشاف أن اليورانيوم 235 ، هو أقل العناصر الموجودة من حيث الطاقة المطلوبة لعملية الانشطار ، سعى الجميع للوصول إلى هذه المادة السحرية التي لا توجد منفردة في الطبيعة ،ولكنها توجد داخل اليورانيوم 238 بنسبة تصل إلى 7 في المليون،بمعنى أن كل مليون ذرة من اليورانيوم 238 تحتوى على 7 ذرّات فقط من اليورانيوم 235، والذى يعرف أيضا بالوقود النووي المستخدم في المفاعلات النووية!!
وأهم عناصر التكنولوجيا النووية،هي امتلاك القدرة على استخلاص اليورانيوم 235 من اليورانيوم 238 ، وتسمّى هذه العملية بتخصيب اليورانيوم ،وأشهر الأساليب المستخدمة لعملية الاستخلاص هي استخدام تكنولوجيا آلات الطرد المركزي، وهى التكنولوجيا المستخدمة في باكستان لإنتاج القنبلة النوويّة ، ومستخدمة فى إيران لإنتاج الطاقة الكهربية.
وعموما، إذا تمّت عملية الاستخلاص،ووصلنا إلى نسبة 3% ،فهذا يعنى أن بإمكانك تشغيل محطة نوويّة لتوليد الطاقة الكهربة ، أما إذا رفعت نسبة التخصيب إلى فوق الــ 50% فهذا يعنى أن بإمكانك تصنيع سلاح نووى ، وهذا ما تسعى مجموعة الــ 5+1 ، لمنع إيران من الوصول إليه من خلا ل الاتفاق النووي الذى ألزم إيران بقبول المراقبة الدائمة لعملية التخصيب لضمان ألا ترتفع نسبة التخصيب. لديها أكثر من 3%!!.
وقد حاول الغرب اقناع إيران أن تتوقّف عن تخصيب اليورانيوم بنفسها، مقابل أن تتعهّد الدول بتسليمها شحنات اليورانيوم المخصّب اللازم لتشغيل المحطة سنويّا في موعد يتفق عليه ، وهذا الأسلوب رفضته إيران قطعيا ، والسبب مفهوم ، لأنها دولة تريد أن يكون قرارها بيدها لا بيد غيرها!!
لدرجة أنه لما ألغى ترامب الاتفاق ، ألغت إيران هي الأخرى التزامها بنسبة التخصيب!! ، وبدأت بشراء المئات من آلات الطرد المركزى لتسريع عملية التخصيب ورفع النسبة، وهو ما جعل الغرب يسعى بشدة من جديد لإحياء الاتفاق خشية أن تصل إيران إلى النسبة الكافية لصنع قنبلة نووية!!
وكان العالم الباكستاني المسلم عبد القدير خان (انظر الصورة) من أوائل من استخدم تكنولوجيا الات الطرد المركزى في تصنيع القنبلة النووية الباكستانية ،حيث وضع الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق تحت يده “ميزانية مفتوحة” لتحقيق الحلم الباكستاني، ونجح عبد القدير خان وفريقه في سنوات معدودة أن يجعل باكستان دولة نووية ،وعلى الرغم من وجود ميزانية مفتوحة تحت يديه ، فإن أولاده كانوا فى مدارس حكومية لأنه لا يملك ثمن المدارس الخاصة!!
ثم اغتيل للأسف ضياء الحق ، وبعده اتهم البروفسور عبد القدير خان من قبل أمريكا بأنه هو من سرّب هذه التكنولوجيا لإيران ، وانصاعت للأسف الحكومة الباكستانية للضغوط الأمريكية ، ووضع العالم الكبير قيد الإقامة الجبرية لسنوات طويلة ، ومنع من ممارسة أي نشاط ، حتى مات رحمه الله في أكتوبر الماضي، وكانت جنازته يوما مشهودا في تاريخ باكستان، حيث خرجت حشود هائلة في جنازته للتعبير عن أن رأي الشعب المقهور كان مخالفا لرأي حكّامه ، أو كما قال شوقى : لسانى عليه ، وقلبي معه!!.
ومصر كانت سبّاقة في دخول عالم الطاقة النووية قبل الكثير من الدول النووية الحالية، من خلال مفاعل (أنشاص) الذى أنشأه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1958 ، لكن للأسف لأمور سياسية ، فرض علينا في الثمانينات التوقّف عن هذه الأبحاث النووية، وأصبح من وقتها المفاعل تاريخا وليس حاضرا
،ثم بدات من عدة سنوات إعادة إحياء فكرة محطة الضبعة النووية، ومن الواضح حسب الصحف، أن هناك خطوات غير مسبوقة تمّت على الأقل في الجزء الكهربي من المحطة.
والحقيقة أن إعادة إحياء الحلم النووي المصري شيء عظيم ، ولكن ليس بالصورة المعلن عنها حتى الآن!! ، فالمعلن أن روسيا ستقوم بإنشاء المفاعل، وستتعهّد بتوريد اليورانيوم المخصب لهذا المفاعل ، وستقوم بالإشراف على تشغيل المفاعل !!! وهو نفس الأسلوب الذى عرض على إيران من قبل، ورفضته إيران رفضا قاطعا ، وللأسف قبلنا نحن بهذا الأسلوب الذى يجعل من روسيا متحكمة تماما في توريد وقود المحطة وتشغيلها!!
فلماذا تسمّى إذن محطة نوويّة مصريّة؟؟ … إنّها بهذا الشكل ليست سوى “محطّة روسيّة “على أرض مصرية!! ، ويقتصر دورنا على تشغيل الجزء الكهربي،وأن نتفرّج من بعيد على تشغيل الجزء النووي ، لأن التخصيب سيتم بعيدا عنا ، وسيأتي إلينا الوقود النووي جاهزا !!
والسؤال الآن :لماذا لم تسلك مصر نفس المسلك الإيراني،وتصرّ على أن يتم التخصيب على أرضنا وبأيدى علمائنا؟
والسؤال الأهم ، بما أنه هناك احتمال أن تتسبّب الحرب في أوكرانيا هذه الأيام في تأخّر المشروع ، ولو مؤقّتا ، خاصة مع العقوبات الاقتصادية الضخمة على روسيا، فهل من الممكن أن نستغل هذه الأزمة ، ونسعى لتصحيح هذا الوضع الغريب الذى وضعنا أنفسنا فيه، بحيث يتم التخصيب بالكامل على أرضنا، لتصبح بحق محطّة نووية مصرية ، ويصبح مشروعا يليق بقيمة مصر ، وليس مجرد ديكور

  • أستاذ بكليّة الهندسة في جامعة القاهرة.
  •  (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق