مقالات

تحرير فلسطين: عاطفة منطقيّة واقعيّة

نارت قاخون*
تُستخدم ثنائيّة “العاطفة والعقل”،أو “الانجراف العاطفيّ”،مقابل “الرّصانة المنطقيّة” حيلةً نفسيّة وجداليّة تُخفي دلالات هذا الاستخدام ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
فإذا أراد أحدنا،أن يتبرّأ من رأي أو موقف، وصفه بـ”العاطفيّ”،ليكون موقفه المضادّ “عقلانيّاً ومنطقيّاً” بالضّرورة، ثمّ يُتبع ذلك بذمٍّ للموقف “العاطفيّ”، ومدحٍ لـ”المنطقيّة والعقلانيّة”، مع التّباكي على ضجيج الموقف العاطفيّ وصخبه من جهة، وخفوت الموقف المنطقيّ وغيابه من جهة أخرى، ثمّ يُلحق ذلك بـ”مظلوميّة أصحاب الموقف المنطقيّ والعقلانيّ” الّذين يُظلمون من “العاطفيّين” بوصفهم بـ”الخيانة والعمالة” مثلاً!
يظنّ هؤلاء أنّ هذه الأحكامَ “منطقيّةٌ”! وأنّ وصفهم لموقفٍ ما بالعاطفيّ، ولمقابله الضّدّي بـ”المنطقيّ”،يجعل الأمر كذلك بقوّة الوصف والتّسمية!
وهؤلاء ،إمّا أن يكونوا ممن يرى أنّ “المنطق والعقلانيّة” أحكام غير نسبيّة، وغير ذاتيّة؛ أي لها براهين وأدلّة فوقيّة وقاهرة، لا تعتمد على رأي خاصّ، وتصوّرٍ خاصّ. وهنا فإنّ من يزعم أنّ الموقف الفلانيّ هو موقف “منطقيّ وعقلانيّ”، فعليه أن يورد أدلّته وبراهينه،فليس الأمر بمجرّد الوصف والادّعاء!
وإمّا أن يكون ممن يرى أنّ “المنطق والعقلانيّة” أحكام نسبيّة وذاتيّة، فيُقال له بسهولة: منطقك هو “عاطفتك” لا أكثر، وعاطفة الآخرين الّتي ترفضها هي منطقهم كذلك، فما تسمّيه موقفك “المنطقيّ”، هو موقف “عاطفيّ خالص”، ولكنّك تُزيّنه بـ”العقلانيّة والمنطق” لا أكثر!
وإمّا أن لا يكون من أولئك أو هؤلاء، لا ينطلق من تصوّرات فلسفيّة لمواقفه، بل لا علم له بها، ولكنّه يستعين بحمولة كلمات الّلغة وتعبيراتها ليُحقّق أكبر قدر من الانسجام مع نفسه، وهذا الانسجام ليس مدحاً خالصاً، ولا ذمّاً خالصاً، فلـ”الانسجام مع النّفس” محصّلات متضادّة ومتناقضة.
فقد تكون محصّلة “الانسجام” تعبيراً عن “الجبن والضّعف والتّخاذل”؛ ولأنّ هذه محصّلة لا يستطيع الإنسان الاعتراف بها يلجأ إلى “دثار الّلغة” ليخفي هذه المحصّلة؛ فيصف محصّلة موقفه بـ”العقلانيّة والمنطقيّة والحكمة النّادرة”! مقابل “تهوّر الآخرين”، و”غليان عاطفتهم”، و”فيضان مشاعرهم”!
خلاصة ما أريد قوله هي أنّ توظيف ثنائيّات “المنطقيّة والعاطفة”، مدحاً للأولى، وذمّاً للثّانية لا يعبّر عن وصف واقع المواقف المختلفة كما هي، بل يُعبّر عن “شعور صاحب الموقف نفسه”.
في ما يخصّ “فلسطين”، فإنّني أرى وجوب تحريرها كلّها، وأرى إمكان ذلك إمكاناً حقيقيّاً، ولا أبالي، ولا أحسب أدنى حسابٍ لمن يريد وصف هذا الّذي أراه بـ”العاطفيّة”، و”الشّعريّة”، و”اللاواقعيّة”، و”الّلامنطقيّة”، و”اللاعقلانيّة”،فإنّني أعرف وأدرك وأشعر من “علوم المنطق”، و”فلسفة العقل”، و”الفلسفات عموماً”، و”فنون البلاغة والبيان”، ما يُمكّنني من ردّ “سفسطات” هؤلاء، بـ”سفسطات” أعقد! ولكنّني لن أُهدر طاقتي في سقاية “نبتة بلاستيكيّة”، لن ينفعها ماء الأرض والسّماء لتنمو “نانومتراً” واحداً. ودليل “النّبتة الحيّة” من “النّبتة البلاستيكيّة” هو الواقع والمستقبل قريبه وبعيده، فهما الحاكمان على الجميع، ليس بما ينبغي أن يحدث، بل بما يحدث وحسب، وأنا ممن يؤمن بأنّ قيمة الإنسان هي في ما يرى أنّه ينبغي أن يحدث، ويعمل ما استطاع سبيلاً إلى حدوثه…
إنّ “تحرير فلسطين”، والعمل على كلّ ما يؤدّي إلى ذلك هو “الموقف المنطقيّ الوحيد”؛ منطق ما يجب، وما ينبغي، وما يُمكن.
ومن يرى هذا “سفسطة”، أو “عاطفة تُعمي”، فلن أزيد “سفسطته” سفسطةً، نأياً، لا عجزاً.

*أستاذ جامعي أردني

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق