مقالات

حركة فتح بين الفاعليّة والضمور

بقلم: د. محمد نعيم فرحات*

في نقطة التحوّل التي يمرّ بها الوضع الفلسطيني والإقليم، تعيش حركة فتح في حيّز الأسئلة الصعبة والحادة ،التي لا تتحمّل إرجائها لغدٍ على جري عادة حركة،تعوّدت أن يكون غدها يوما بعيدا، وقد لا يأتي، وهي عادة لم تكن مفيدة لها ولدورها، سوى في تحويل الأسئلة المطروحة إلى إشكاليات عميقة تتكوّم في التاريخ على نحو متعب وشاق.
الحركة التي لعبت على مدار أربعة عقود، الدور المركزي في مشهد النضال والعمل السياسي الفلسطيني، وتتحمّل المسؤولية الأساسية عما تحقّق في هذه العقود من انجازات قلقة وإخفاقات عميقة، وحكمتها علاقة متوتّرة مع ثقافة المراجعة،وفضائل التعديل، تعيش في عين عاصفة صنعتها متغيّرات كثيرة ذاتية وموضوعية، أثّرت فيها وفي المشهد الفلسطيني برمّته.
فوق كل ما يتراكم في جدول أعمال تاريخي، يرتبط بالمهمّات المطلوبة للتحرر والانعتاق من الاحتلال، وما يرتب بذلك من مهمات جسام، ثمة تداعيات وخيارات تتوالى رواسبها، وتلقي بأثقالها على عاتق “قتح” والمشهد الفلسطيني برمته:
من حرب لبنان عام 1982 وما قبلها، إلى طريقة التعاطي مع انتفاضة1987، فالتبدلات الحاصلة في البيئة الإقليمية والدولية، ثم نتائج الحرب على العراق عام 1991 التي تتدحرج بصيغ شتى حتى الآن، وما رافقها من عمليات تحطيم للبنى الحيّة في الإقليم. ثم الذهاب الواهن نحو خيار التسوية السلمية عام 1993،وما تولّد عنه من أعباء وأخطاء،وأوضاع شامله ،وعثرات اغتنامه، على نحو يحوّله من ابن حرام سياسي إلى إمكانية مفيدة في سياق ما، إلى ظهور قوى جديدة في الساحة الفلسطينية،تبنّت الخيارات الضرورية المتروكة على قارعة الزمن. فحرب 2006 كنقطة تحوّل جوهرية في مجريات الصراع، وظهور محور المقاومة، وضمور محور الاعتدال، وإفصاحه عن مواقف وسياسات خطرة على المصير الفلسطيني، فالانقسام2007 وتداعياته، وحروب غزه المتتالية، وحروب ما سمي بالربيع العربي وحرائقه، وأشياء أخرى كثيرة.
إزاء كل هذه الأحداث، كان بمقدور أي متابع أن يرى، كيف أنه لم يكن يرى لدى حركة فتح مقاربة استراتيجية وسياسة واضحة ومناسبة في التعامل مع الكثير من هذه المتغيّرات، في حين إن متطلّبات دورها ،تستوجب وجود حس نشط ويقظ متناسق ،ويستجيب على نحو فعّال للمتطلّبات .
كثيرة هي العوامل التي مسّت حركة فتح ومكانتها، وجرّدتها من قدرات عديدة، وإمكانيات وهوامش هامة، ورويدا رويدا، بدت كأنها طرف حائر ومشدوه، يقف على ضفاف نقاط تحوّل ومنعطفات حادة، تتصارع فيها محاور مقتدرة، توجد في صلب استراتيجياتها فلسطين وتقرير مصيرها.وهذا الوضع لا يناسب حركة ملأت الدنيا وشغلت الناس، فيما عادة البحث عن لحظات مضيئة في الماضي،لا تحلّ مشكلة العلاقة المتوتّرة مع الحاضر، لا لشخص ولا لحركات سياسية مطالبة بما لم يطالب به الأوائل.
غير أن لدي حركة فتح ،بحكم طبيعتها وتركيبتها وخصوصيتها ،شيء تستطيع العمل عليه هو: “قوة غير المتوقع” التي تتباين مع الراهن، وهي قوة كامنة في ثناياها تولّت تاريخيا استنقاذها من نفسها، ومن الأوضاع الصعبة التي عاشتها، واستطاعت تجديد حضورها.
“غير المتوقع”،هو محلّ التركيز عند العقل الباطن في فتح، وعند أعدائها، وعند خصومها، وعند المنتظرين لها والذين يعتقدون بأهمية دورها، وعند مختلف القوى المعنية بالصراع.
إسرائيل وحلفاؤها الممتدون من الغرب إلى الإقليم، تخشى اشتغال قوة غير المتوقع في فتح، لذلك تستخدم كل الإمكانيات لإخماده، ويريدون فتح حركة واهنة وهزيلة لتشريع وتمرير الحلول المنقوصة .
منافسوها في الساحة الفلسطينية ينظرون إلى أهمية اشتغال قوة “غير المتوقع” عندها من جهة، ويتحسّبون منه سياسيا من جهة أخرى، لكنهم يريدون اشتغاله، لأن ذلك يفيد القدرة الفلسطينية على التصرّف مع الصعوبات والمتغيّرات.
محور المقاومة، الذي لا تتحدّث معه فتح، والذي لم يرفع نظره السياسي عنها يوما، يتطلّع إلى اشتغال قوة غير المتوقع عندها في سياق مقاوم سياسيا ومعنويا وماديا.الجميع يركّز اهتمامه بصورة أو بأخرى على قوة غير المتوقع في فتح كل من زاوية تخصّه.وأهم ما لدى فتح في اللحظة هو “غير المتوقع”.
اعتادت فتح الحالية أن يكون “غير المتوقع” في متنها، وليس على سطحها قوة احتياط تشكر على صنيعها ،الذي كان يتم صرفه في غير مداره عموما، ثم يجري إعادته كقوة احتياط محبطة إلى متن الحركة من جديد.
وضع حركة فتح الراهن والبيئة التي تتحرك فيها، لا يحتمل التعامل مع قوة “غير المتوقع” الثمينة كما كان يجري سابقا،لذلك فإن تأطير هذه القوة بخطاب يلائم اللحظة والهيكل والتوجّهات والوجوه هو الأفضل لفتح ولكل المعنيين بها، على الرغم من تباين وتناقض رؤيتهم له، لأن أي بديل لذلك مهما كان، سيكون صعبا على الجميع.
فتح ،أمام امتحان مصيري، يتطلّب أن تستخرج من نفسها شيئا ما، يجدّد دورها وحضورها، كما لم تتعوّد على ذلك من قبل عبر خلوة قاسية تعقدها مع نفسها، أو أن يكون بديل ذلك مواجهة الضمور والخروج الثقيل وغير المنظّم من مسرح العمل التاريخي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق