مقالات

كورونا” بين “المؤامرة” و”المكابرة”: وجهان لـ”مستنقع واحد”!!

نارت قاخون*

أصل معنى كلمة “المؤامرة” في كلام العرب ،هو “المشاورة”، فجاء في رسالة “عمر بن الخطّاب” إلى القاضي “شُريح” حين ولّاه قضاء الكوفة:”إن شئتَ تجتهدُ رأيك، وإن شئت أن تؤامرنيّ، ولا أرى “مؤامَرتَك” إيّايّ إلا أسلم لك”.
ولارتباط “المؤامرة” بمعنى “المشاورة”، ارتبطت سيرتها في الخبرة العربيّة بما يُعرف بـ”السّياسة الشّرعيّة”، واكتسبت دلالاتٍ إيجابيّة ترتبط بـ”الشّورى والمشاورة والتّشاور”، حتّى صارت “المؤامرة” مصطلحاً في “السّياسة الشّرعيّة” يعني “الكتاب” ،الّذي يحوي كلّ الوثائق الّتي فيها مسائل تحتاج “تشاوراً”، واتّخاذ رأي واعتماده.
ولأنّ “المشاورة والتّشاور” في خبرة البشر مقصودة للوصول إلى “اتّفاق”، ورأي “مُعتمَد” يتبعه قرارات وعمل، صارت “المؤامرة” تعني “اتّفاقاً بعد تشاور”.
ومع ارتباط “المؤامرة” بدلالتي “التّشاور” و”الاتّفاق”، دخلت هذه الكلمة معجم العلماء، فصارت تُستَعمَل عندهم بمعنى “الفرضيّات”؛ أي ما ينشأ بعد المشاورة والتّفكّر العقليّ، ثمّ يُتّفَق عليه، انتظاماً وانتظاراً لـ”البرهان”، فنجد على سبيل المثال عالم الرّياضيّات والفلك والجغرافيا “أبا الرّيحان البيرونيّ”،يستعملها بما يكافئ معنى “الفرضيّات”.
ومع سيرة كلمة “المؤامرة” في “السّياسة الشّرعيّة”، و”العلوم”، كان لها سيرة في “الفعل المجتمعيّ والتّجاريّ” في الخبرة العربيّة كذلك، وهي سيرة توافق السّيرة السّياسيّة والعلميّة في دلالتي “التّشاور والاتّفاق”، إلا أنّها اكتسبت دلالة ثالثة بفعل الخبرة الاجتماعيّة، وهذه الدّلالة الثّالثة هي “الخفاء”؛ أي تصبح “المؤامرة” اتّفاقاً بعد مشاورة تجري في “الخفاء”.
ولأنّ “الخفاء” من أضداد “الشّرعيّة”؛ فالأمر المشروع دينيّاً وأخلاقيّاً ومجتمعيّاً لا يتكلّف النّاس إخفاءه، إلا في سياق “الإخلاص” كـ”الصّدقة الخفيّة” مثلاً، ارتبطت “المؤامرة” في العرف الّلسانيّ الاجتماعيّ ، بـ”اتّفاق غير مشروع” يحدث بعد تشاور يجري في “الخفاء”.
وفي كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهانيّ بيتان “بذيئان” من الشّعر لـ”يوسف بن الصَّيْقَل الواسطيّ” يستعمل كلمة “المؤامرة” لما يكون من اتّفاق ودفع أموال بين “فاعلي فعل قوم لوط”!
أمّا الاستعمال الحديث لكلمة “المؤامرة”،فكان مزجاً ذكيّاً بين السّيَر المتعدّدة لدلالات هذه الكلمة، فأمست تعني: اتّفاقاً سياسيّاً “غير شرعيّ”، يجري بعد “تشاور” في “الخفاء”، ينتهي إلى ما يُشبه فعل “قوم لوط”، ولصالح “الفاعلين” على حساب “المفعول بهم”!
ولكنّ سيرة كلمة “المؤامرة” المعاصرة، تعرّضت لانحرافين متضادّين؛ انحراف باتّجاه تعظيم دور “الفاعلين”، حتّى أمست “المؤامرة” اتّفاقاً على كلّ شيء، وتحكّماً في كلّ العوامل والأسباب، وقدرة “إعجازيّة” بيد الفاعلين، فلا يبدأ شيء، ولا يحدث شيء، ولا يجري شيء إلا وفق إرادة “الفاعلين” وفعلهم، فانتهى هذا الانحراف إلى “عجز المفعول بهم” عجزاً تامّاً، وهو “عجزٌ متوهّم” يلجأ إليه العاجزون لتسويغ “عجزهم”، وتسويغ عدم فعلهم، وترك ما يجب عليهم.
وفي مقابل هذا الانحراف،انحرفت كلمة “المؤامرة” إلى اتّجاه مضادّ، يزعم أصحابه أنّهم يريدون معالجة الانحراف الأوّل، فوقعوا في انحراف لا يقلّ عنهم، ولكن باتّجاه آخر! فإذا كانت “المؤامرة” تقوم على “اتّفاق الفاعلين في الخفاء على فعل ما يريدون بـ”المفعول بهم”، ذهب “نفاة المؤامرة” من أصحاب هذا الاتّجاه إلى نفي وجود أيّ “اتّفاق”، ونفي وجود أيّ “خفاء”، ونفي وجود أيّ “فاعلين”! فلم يبقَ إلا “المفعول بهم”! فأمسى الذّنب كلّ الذّنب، والجرم كلّ الجُرم على “المفعول بهم” وحدهم!
وهذان الاتّجاهان يتنافسان في “الغباء” و”الغفلة والتّغافل”، مع ادّعاء “الذّكاء والبصيرة”! ولكن باتّجاه مختلف:
فالمؤمن بـ”المؤامرة القدريّة” الّتي تتحكّم في كلّ شيء، وأيّ شيء، يُقسّم “الذّكاء” بين “الفاعلين”، و”المفعول بهم”، فيكون ذكاء الفاعلين في مؤامرتهم، وذكاء المفعول بهم في “كشفها”، وإظهار كلّ ما كان “خفيّاً”، حتّى لو كان اتّفاقاً في دهاليز سريّة تجري تحت الأرض السّابعة! ويجعل هؤلاء “الغباء” حصراً في مَن يشكّك بشيء من قدرة هؤلاء الفاعلين، وتحكّمهم في كلّ شيء!
والكافر بـ”المؤامرة القدريّة”، كأمثال كثير ممن يعيبون “المؤمنين بالمؤامرة”، يرون الذّكاء حصراً في نفاة كلّ معاني “المؤامرة”، ودلالاتها المتعدّدة! ويسمي “نفي المؤامرات” نفيّاً كليّاً دليلاً كافياً ليوصف النّافي بـ”الذّكاء والعقلانيّة والواقعيّة”، و”الثّقافة” أيضاً! فهو ليس كـ”العوّام” ممن يؤمنون بـ”المؤامرة”، أو عفواً بـ”نظريّة المؤامرة” كما يُحبّون تسميتها! والغريب أنّ كثيراً ممن يعيب على المؤمنين بـ”نظريّة المؤامرة” بوسمها بـ”النّظريّة” إدانة لها، وللقائلين بها، يُقدّس مفهوم “النّظريّة” في سياقات أخرى!
الّذي يقول لك في أيّ أمرٍ يُصيبك: ليس لك من الأمر شيء! وكلّ ما يحدث نتاج فعل “المتآمرين” و”المؤامرة الكونيّة عليك”!
والّذي يقول لك: أنت مسؤول وحدك، مسؤوليّة كاملة وتامّة عمّا يحدث لك! فلا أحد يتآمر عليك، ولا أحد يُخطّط لمصالحه على حسابك، وكلّ المشكلة فيك أنت!
يقولان قولاً واحداً، وينتهيان إلى نتيجة واحدة، وهي “العجز عن الفعل المناسب والكافي والضّروريّ” لحدوث تغيير في “المشكلات والكوارث”!
فالنّجاحات والإخفاقات لم تكن يوماً من الأيّام نتاج فعل “فرد” أو “جماعة” وحدهم، من غير تدخّل عوامل وفواعل سياقيّة، وأدوار الآخرين، فلا يكفي لحدوث أمرٍ أن تريد حدوثه فقط! وإلا لانتهت الحياة قبل أن تبدأ! فأنا أريد شيئاً، وأنت تريد نقيضه، وإذا كانت “الإرادة” وحدها كفيلة بحدوث هذا الأمر، فسيحدث “النّقيضان”! وفي “التّناقض” نقضٌ ونكث لعرى الوجود الإنسانيّ!
لا تصير “الإرادة” فعلاً وواقعاً إلا بتوسّط “الممكنات”، ومَن يريد تحويل إرادته إلى فعل وواقع، فعليه الاشتباك مع “الممكنات”. وهذا الاشتباك مع “الممكنات” هو ما يُضيّعه الاتّجاهان المتّطرّفان في منظورهما لـ”المؤامرة”؛ المؤمن بها بزعم “عجزنا عن فعل أيّ شيء”، و”الكافر بها” بزعمه أنّ الأمر كلّ الأمر بيدنا وحدنا، وليس للآخرين والسّياقات والممكنات أيّ دور!
ومن لطيف سَنَن العرب في كلامهم أنّها تستعمل كلمة “المُكابرة” ضدّاً لـ”المؤامرة”؛ فإذا كانت “المؤامرة” نتاج اتّفاق، فـ”المكابرة” نتاج غياب أيّ اتّفاق.
وهكذا أصبحنا بين مستنقعين؛ مستنقع “المؤامرة” الّتي تجعل كلّ ما يحدث نتاج اتّفاق الآخرين والمتواطئين فقط! ومستنقع “المكابرة” الّتي تجعل كلّ ما يحدث نتاج “غبائنا وعجزنا”! أمّا الآخرون حتّى أعدى الأعداء فمبرّؤون من كلّ ذنب وتخطيط وتآمر! ولا دور للممكنات والسّياقات والشّروط التّاريخيّة!
أمسينا بين اثنين؛ يرى أحدهم “أمريكا والصّهيونيّة والرّأسماليّة” شيطاناً خارقاً، يحلّ محلّ “الله! في التّحكّم بكلّ شيء! حتّى أنفاسنا وأحلامنا وأفكارنا!
ويرى الثّاني أنّ “أمريكا والصّهيونيّة والرّأسماليّة” ملاكاً لا يريد إلا الخير للعالم، وإن وقع شرٌّ منه، فبسببنا، أو لأخطاء حسن نيّة هذا الملاك!
سيرى “المؤمن بالمؤامرة الكورونيّة الكونيّة” أنّ كلّ ما حدث ويحدث، من ألفه إلى يائه، نتاج تآمر، وتخطيط، وتصنيع، سينفي ظهور الأمراض والفيروسات، وتخبّط البشر، وعجزهم، وجهلهم، سينفي “الارتجال”؛ فكلّ شيء يجري كما “السّيناريو المكتوب” من مجلس “المتآمرين الكونيّ”! يؤمن بحدوث ذلك في “المسرحيّة الكونيّة”، بينما المسرحيّة الفنّيّة الّتي يكتبها كاتب، ويُخرجها مخرج، ويمثّل فيه ممثّلون لا تخلو من الارتجالات والمفاجآت!
وسيرى “المؤمن بالمكابرة الكورونيّة” أنّ المذنب الوحيد فيها هو “مَن يُصاب بها”! أمّا الأنظمة السّياسيّة والاقتصاديّة، وتجّار الدّواء والّلقاحات، وعلماء “المختبرات”، ليسوا إلا “ملائكة” تحاول بإخلاص محاربة “كورونا”، لا المتاجرة بها!
“كورونا” مرض كأمراضٍ كثيرة أصابت البشر، لم تخلُ تجربة سابقة لها من حدوث تحوّلات كبرى أثناءها، وبعدها، لم تخلُ ممن يوظّفها ويتاجر بها؛ فحين ينتشر “الطّاعون” تزدهر “تجارة التّوابيت”! ولم تخلُ من تطوّرات في معارف البشر، وسلوكهم، زالت أنظمة سياسيّة ومنظومات اقتصاديّة، وظهرت أنظمة ومنظومات أخرى، وكان أكثر المستفيدين بالمعنى الإيجابيّ أو السّلبيّ هم من جعلوا “الإرادة” فعلاً بوعيهم واشتباكهم ومدافعتهم لممكنات الزّمان والمكان، فلم يقفزوا عنها بـ”أوهام مكابرة الإرادة السّحريّة”، ولم يقعوا أسرى لها بـ”أوهام مؤامرة الإرادة السّحريّة”.

*أستاذ جامعي أردني

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق