مقالات

أم الفحم تشع نوراً

زياد ابحيص*
ثلاث جبهات تقف أم الفحم اليوم على خطها الأول: أولاها وأوسعها، هي تلك الجبهة التي تعيد فيها عنف المحتل إلى صدره، وتصحّح فيه البوصلة جلية واضحة ،بأن العنف الأهلي المنتشر في الداخل المحتل،ليس ظاهرة ثقافية،أو اجتماعية بحتة،بل هو نتيجة سياسة منهجية لنشر السلاح،وتشجيع الاستقواء، تشرف عليها وتديرها الأجهزة الأمنية الصهيونية.
هذا العنف الأهلي، الذي اختار كثيراً من أهدافه على المقاس الصهيوني،وكأنه خلق كما تتمنّى المؤسسة الأمنية الصهيونية،فراح يستهدف شباب الحركة الإسلامية وقادتها، بعد حظر الصهاينة لها، وأخذ يخطف خيرة شباب الداخل المحتل.كانت الأجهزة الأمنية الصهيونية تخطّط لجعله جبهتها المريحة:يزداد ويتكاثر ويربك المجتمع الفلسطيني،ويخطف خيرة شبابه وقادته، ويظهر الفلسطينيين في موقع المتوحّش المحتاج بالضرورة إلى عنف المستعمر، ليحميه من نفسه.
حتى خيارات مواجهة هذا العنف،كان يمكن لها أن تصبّ في مصلحة أجهزة الأمن الصهيونية، فهي كانت تعوّل على خطابٍ سطحي تلقائي يستدعيها للتدخّل، ويطلب منها فرض الأمن،فيصبح خنقها للناس ،وتضييقها على عيشهم وملاحقتهم في بناء البيوت ،ومحاولة إسقاط شبابهم ممارسة شرعية … لحمايتهم. خرجت أم الفحم من وسط ذلك كله لتقلب الطاولة، وإلى جانبها باقة الغربية وطمرة لتؤشّر له بإصبع الاتهام،وتعيد إليه سمومه المنثورة: أنت من تنشر السلاح ،وترعى العنف لتحقيق مآربك، أنت العدو مصنّع الأزمات، ولن تكون في يوم من الأيام مصدر الحل…لن نستدعيك كما تتوهّم، بل سنستدعي كل إرادتنا وعزمنا لتبديد وهمك.ومضت أم الفحم على ذلك بتصميم وإرادة لسبع جمعٍ متتالية، وها هي تشقّ طريقها اليوم نحو الجمعة الثامنة.
في الجبهة الثانية، صنعت أم الفحم نموذجاً مُلهماً ،في كشف عورة النظام القضائي الصهيوني، واشتقاق معادلة انتزاع العدالة منه؛فالقضاء الصهيوني ليس إلا ذراعاً من أذرع هذا الكيان الاستعماري، الذي لم يكن يحمل لنا إلا الإبادة،والطرد،والاقتلاع،والاستيلاء على الأرض، ولا يحمل لنا اليوم، إلّا الهيمنة والتهميش والإخضاع والعدوان…وإن أردنا حقنا منه، فلا بد أن يكون تحت الضغط والتهديد، وسط حضور الإرادة الجماهيرية الحرّة، التي تقول له بوضوح إن لكل حكمٍ ثمن… فاحسب حساباتك جيداً. ليس “ضمير” القاضي الصهيوني،ما نعوّل عليه،ولا “حسه” بالعدالة، بل خوفه من التداعيات.
في الجمعة الماضية،السابعة من عمر هذا الحراك الفحماوي المتوقّد، اعتقلت شرطة العدوان أربعة من شباب الحراك،على الرغم أنها هي من اعتدت، ولم توفّر النساء ولا الشيوخ، وطالت يد عدوانها رئيس بلديتها الدكتور سمير محاميد، الذي وقف وسط جماهير أهله، فأرادت شرطة العدوان أن تدفّعه ثمن ذلك،لعلّها تردعه عن وقوف هذا الموقف.في اليوم التالي،كانت محكمتهم في حيفا في الساعة السادسة مساء، وهناك كانت المحكمة على موعدٍ مع نحو ألفين من جماهير هذا الحراك، فلم يكن منها ،إلا أن أفرجت عن ثلاثة منهم بشكلٍ فوري،وأفرجت عن رابعهم في اليوم التالي ليُستقبل في مدينته استقبال الأبطال. وسط كل هذا،لم تنسَ أم الفحم في الجبهة الثالثة طريقها الطويل،الذي سارت فيه عقوداً إلى جانب الأقصى والقدس،وهو الذي أراد المحتل أن يجعلها تدفع ثمنه، فكانت في قلب الحراك الشعبي، للتضامن مع مسؤول الحراسة في المسجد الأقصى المرابط فادي عليانبعد هدم بناية سكنية لعائلته في العيسوية،فكان شبابها وأهلها في قلب التضامن معه في خيمته،وعصباً في يد العون التي امتدت لتسنده في محنته،فكانت تشقّ طريقاً ثالثاً للإرادة: لن نسمح للمحتل أن يستفرد بالمرابطين.
في هذه الجبهات الثلاث ،تصنع أم الفحم اليوم نموذجاً مشرقاً، وتتحوّل بهمة شبابها عاصمةً للحرية في الداخل المحتل،وقلباً نابضاً، يضخّ بالحيوية في هذا المجتمع،وبصيرةً نافذة تعرف عدوها وبوصلتها، وما دامت قد وقفت هذا الموقف فالتحدّيات أمامها كبيرة وكثيرة…
ستسعى أجهزة الأمن الصهيونية بكل السبل إلى شق الصف، واستدعاء الخلافات والنعرات، وتطييف هذا الحراك سياسياً، وأمام ذلك،فلا بد من الحفاظ على وحدة هذا الحراك، فهو حراك كل فلسطيني من الداخل المحتل، بل وكل فلسطيني في كل أنحاء الدنيا، يرفض العدوان والقهر ويبتغي الحرية.
ستحاول أجهزة الأمن الصهيونية،أن تستدعي كل ما في جعبتها من عنفٍ وترهيب، ولا بد إزاء ذلك من الصمود،ومن نقل صورة ما يجري في أم الفحم إلى العالم كله، فبينما الصهيونية تزعم الحريّة وتجرّنا لانتخابات الكنيست،وكأننا مكوّن طبيعي في نظامها، هذا الوجه الحقيقي لموقفها منّا وممارستها ضدنا… وهذا واجب كل الإعلاميين والمثقفين والكتاب،فأم الفحم اليوم تصنع ملحمة جديدة، كما صنعتها من قبل الناصرة وعرّابة وسخنين والعراقيب وأم الفحم ذاتها.
اليوم ،وقد وصل حراك أم الفحم أسبوعه الثامن، لا بد أن تصبح ميدان الحشد الأوحد في كل جمعة، يفد إليها أهلها من كل بلدات الداخل، وأن تكون كل العيون والقلوب متوجّهة إلى ساحاتها في كل جمعة تتابع ما تصنعه ميادينها، وأن تكون عنوان حراكٍ متضامن معها،حيثما كان ذلك ممكناً، ففي أم الفحم اليوم يصنع التاريخ، وهذه التجربة ستصبح عنواناً ومحطة من محطات الحرية.

* كاتب وباحث فلسطيني

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق