مقالات

نحو فهم عميق للإسلاميين

نوّاف القديمي*

لا تستقيم المَلَكة النقدية العالية، في تشخيص أزمات الواقع العربي والمجتمعات المحليّة، وتمييز التنوّعات،والتباينات، والانقسامات الجهوية والطبقية والطائفية، مع استسهال ممزوج بعمى ألوان، وجهل متعمّد – ذيطابع أيديولوجي – ،حين يتم الحديث عن الإسلاميين.. والقصة هنا لا ترتبط بموقفك الديني أو السياسي منهم، بل بقُدرتك على الفهم.
حتى تتحلّى بروح الدارس، تجاوز أوّلا عن رغباتك الحادة تجاههم،وتعامل مع الحالة ببرود بحثي، وقدرة على الاستيعاب،وإدراك التنوّعات، والفروق،واختلاف المنابع ،ودوافع الصراعات،ومصادر التشكيل،وبعد ذلك أصدر عليهم الأحكام التي تريد.
حين تتحدّث عن “الإسلاميين”،باعتبارهم مجموعات ثيوقراطية، مرتهنة للتفسير الغيبيّ، وأحلام الخلافة،وتحتكر الحقيقة ،وتقصي الآخرين، وتستخدم العنف،وتريد فرض نمط ديني قروسطوي على المجتمعات العربية،فأنت هنا لا تختلف كثيراً ،عمّا يفعله شاب “أزعر”،يشتم خصومه بالأب والأم.
كل الوصف السابق ل “الإسلاميين”،لا خلاف حول كونه ينطبق على شريحة منهم،ولن نجد مشكلة في الاختلاف،حول تقدير حجمها وطبيعتها، لكن اذا كنتَ لا ترى أن ثمة “إسلاميين” آخرين ومختلفين، فالقارئ هنا سيكون أمام مشكلة،حين يتعامل مع ما تكتبه بجدية.
مرة ،سألت أكاديميًا وباحثا ليبراليا معروفا: هل يمكن أن تحدّد لي أهم الفروق بين الإخوان المسلمين في مصر ،والعدالة والتنمية في المغرب؟
فأجاب: نعم، يمكن أن نتحدّث باختصار عن خمسة فروق رئيسة: موقفهم من الديمقراطية ،سواءً داخل الحزب، أو في الحياة السياسية، وموقفهم من المرأة ودورها، ونمط علاقتهم وخلافهم مع النظام الحاكم، وطبيعة علاقتهم بالغرب الثقافي، وعدم ارتباط العدالة والتنمية بإرث ثقافي وحركي ونضالي ،يكونون مضطّرين معه للتصحيح ،وإعادة القراءة للتخلّص من هيمنته، كما هو عند الإخوان في مصر .. بصراحة أعجبني هذا التلخيص الموجز، والذي يدلّ على فهم جيّد ، من باحث هو يقف على الخصومة مع كل الإسلاميين،لكنه في النهاية يستطيع فهمهم …ولاحظ أننا هنا، لا نتحدّث عن الفروق مع التيارات السلفية والوهابية والجهادية،بل عن تيارين مازال كثيرٌ من الباحثين، لا يرى سوا أن كليهما “إخوان مسلمين” وفقط.
حين جاء الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا إلى السعودية، لدراسة تاريخ “الإسلام السياسي” فيها، كان مما درسه بعض المجموعات السلفية الصغيرة غير المعروفة، ومن ذلك أنه قدُم عرضاً ممتازاً لمساحة الاختلاف والتمايز بين مجموعات ،كان معظم المهتمين بالحالة الدينية السعودية، لا يميّزون بينها،ويعتبرونها واحدة ،لفرط تشابهها وتقليديتها “هي: مجموعة أهل الحديث في الرياض، ومجموعة أهل الحديث في القصيم، والجماعة السلفية المحتسبة في المدينة المنورة”، لكن الباحث الجاد لا يتوقّف عن محاولة تعميق فهمه للظواهر والجماعات.
حتى الدراسات المحترمة حول داعش، ليست مشغولة بالإدانة ،بل بالفهم العميق لأسباب النشأة،وروافد تشكيل بنيتهم الدينية الصلبة والمتشددة.
ربما بات من البداهة البحثية معرفة،أن هناك إسلاميين ديمقراطيين، ناضلوا ويناضلون من أجل تطوّر الديمقراطية والحريّات في بلدانهم، وأنهم مع الانفتاح الفكري والسياسي ،ولهم أطروحات متقدّمة في فهم التراث،وكثير من المسائل الفقهية الإشكالية،وأنهم في الوقت ذاته، ليسوا مجموعات نخبوية معزولة،بل تيارات واسعة الشعبية في بلدانها.
هناك مقولة تتردّد في الأوساط الثقافية ،أحسبها دقيقة ومُعبرة، تقول: في الخمسينات والستينات،كان لا يمكن اعتبار الشخص مثقفاً، وهو لا يفهم اليسار والماركسية، وفي العقدين الأخيرين لا يمكن اعتبار الشخص مثقفاً، وهو لا يفهم الإسلاميين.
وأحسبُ أول طريق الفهم، هو أن تحاول التخلّص من أوهام جاذبية المثقف اليساري المتعالي والنزِق، فذلك “الكركتر” انتهى وهجه، مع تهاوي الحضور التياري لليسار في العالم العربي، وتحوُله لحالة نخبوية معزولة وغير مؤثّرة.

*كاتب وباحث سعودي

(المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق