مقالات

حين لم يعد الطّبيب حكيماً!!

نارت قوخان*

لا يزال نفرٌ من النّاس،يسمّي “الطّبيب” حكيماً، وهذا من بقايا تراث إنسانيّ ،يجمع بين “الطّبّ” و”الفلسفة” ،بمسمّى “الحكيم”، كما لا تزال آثار هذا الجمع في شهادة “الدّكتواره” الـ”PhD” ،الّتي تعني: Doctor of Philosophy، أي “شيخ في الفلسفة”، و”الشّيخ” لمن بلغ الخبرة والحكمة والتّجربة والعلم في مجاله.
كانت هذه سيرة “مشايخ العلم” قديماً، عند اليونان والرّومان والعرب، ومن قبلهم، فـ”الموسوعيّة” سمة غالبة، ومقصد مطلوب، ولكنّ توسّع العلوم، وتراكم المعارف جعل “التّخصّص” سمة العلوم المعاصرة.
لم يعد “الأطبّاء” فلاسفة، بل أصبح التّخصّص في الطّبّ ،فرعاً عن فرعٍ عن فرعٍ عن عموم، ولستُ أعني هنا أنّ الأطبّاء ينبغي أن يكونوا علماء في كلّ تخصّص، ولا أن يكونوا “فلاسفة”.
ولكنّ آفات “التّخصّص” في زمن “طبّ المختبرات والأدوية”، و”العيادات” و”المستشفيات” الّتي تُدار بالمليارات، وتُدِرّ مليارات أكثر، تجلّت في نسبة كبيرة من “الأطبّاء”،لم يفقدوا “الموسوعيّة” و”الفلسفة”، وحسب، بل ضيّعوا “الحكمة”، حكمة الإنسان المجرّب العارف بالإنسان، بل حكمة الإنسان بما هو إنسان!
لا أعني هنا تغلّب “الهوس الماديّ والتّجاريّ”،على نسبة منهم، بل أعني استخفافهم وتجاهلهم، بل جهلهم بـ”الإنسان” المركّب المعقّد، فيستغربون خوف الإنسان من “الدّاء”،وخوفه من “الدّواء” معاً، وكأنّ مشاعر البشر نتاج معادلات خطّيّة، تتطابق وأقوال “المختبرات”،و”مصانع الأدوية”،و”تقارير الأطّبّاء”! هذا على فرض كون “الطّبّ الحديث والأحدث”،مجرّد معادلات، و”إجماعات”! ففي “زمن كورونا”،رأينا من خلاف “الأطبّاء واختلافهم”،و”تناقض علمهم بشيء مع جهلهم بأشياء أكثر” ما يجعل “خلاف الفقهاء” أهون بكثير!
“أطبّاء” ضيّعوا “الحكمة”،فلا يعرفون أنّ قلق النّاس من “الدّواء”،قد لا يقلّ عن قلقهم من “الدّاء”، وأنّ تسمية أيّ شيء بـ”دواء” تجعله غير مرغوب، بل مكروهاً؛ فهم يشربون “الشّاي” بـ”الميرميّة والزّعتر” تلذّذاً، ويعافونه “دواءً”،ويفضّلون الدّواء “الطّبيعيّ”،مع أنّه لا يكون دواء إلا بالموادّ الكيميائيّة الّتي يستخلصها “الصّيادلة المخبريّون”،لا “الصّيادلة بائعو الأدويّة الجاهزة”، أو تصنّعها المصانع. ولكنّ وجود الموادّ الكيميائيّة في صورة طبيعيّة في طعام أو شرابٍ طبيعيّ ،يجعل الأنس الإنسانيّ بها أكبر، واستساغتها رغم مرارتها أسهل،كما أنّ وصف شيء بأنّه “لقاح” لا يجعله مطلوباً ومرغوباً بالضّرورة عند البشر، ولا يُستخَفّ بخوفه وقلقه، بل تناقضه، فإنسان القرن الواحد والعشرين ليس منفصلاً عن خبرة بشرٍ تمتدّ لآلاف السّنين، فهو وارثٌ لها، يحمل في مزاجه النّفسيّ والبيولوجيّ خبرة تلك الآلاف من السّنوات، بخيرها، وشرّها، وقلقها، وخوفها، وتناقضاتها.
التّطوّر الكبير في أيّ نظام من أنظمة العلم والحياة يورث بعض السّلبيّات، ومن أهمّها أنّه يمكّن بعض الأفراد من فقيري الحكمة والعقل بالمعنى الإنسانيّ من التّميّز، بسبب “الذّكاء الوظيفيّ”، و”الاجتهاد”؛ فدقّة النّظام وتطوّر آلاته، تجعل الحاجة إلى “الإبداع والحكمة والتّعقّل الإنسانيّ” أقلّ؛ لذلك ضيّع كثير من “الأطبّاء” الحكمة، فلا يعرفون أنّ النّاس لا تحتاجهم إلا في حالات ضعفهم البشريّ، ضعف يجعل التّناقض منهم طبيعيّاً، واجتماع الخوف من الدّاء والدّواء طبيعيّاً.
أيّها الأطّباء، لا نأتيكم إلا مرضى ومرضاً، فاسمحوا لي أن أقول لكم ما قاله الشّاعر الحكيم الألمانيّ “جوته” فيكم:”إنّه لأمر عسير أنّ المرء لا يمكنه الوثوق تماماً بالأطبّاء، ومع ذلك فلا يمكنه الاستغناء عنهم”.
و”الثّقة” دواؤها “حكمة”، فخذوا منها حبّتين قبل الطّعام وبعده، ثلاث مرّات في اليوم طيلة حياتكم. أو خذوها حقنة في وريد الرّوح والقلب والعقل.

أستاذ جامعي أردني*

 (المقالة تعبّر عن الرأي الشخصي للكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي الموقع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق