تقارير و تحليلاتعام

كواليس تنشر مذكّرات أوباما المهمّة (1)

تنشر (كواليس)، على حلقات ،مذكّرات الرئيس الأميركي( باراك أوباما)، التي ترجمها إلى العربية، وعلّق عليها (هاني الكنيسي ).والحقيقة أنّها مذكّرات هامة، تستحق القراءة ، والتوقّف عند كثير مما جاء فيها.وفيما يلي مقدّمة المترجم:

مع اقتراب ذكرى مناسبة 25 يناير (ثورة يناير )، اسمحوا لي أن أعرض -على حلقات مسلسلة- من مذكّرات الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما “أرض موعودة” ،المقاطع المرتبطة بذاكرته بتلك الفترة. وقد حاولت في حدود قدراتي العقلية واللغوية، ترجمة ما جاء على لسان أوباما حرفيا ودلاليا، وأضفت في قليل من المواقع، ما ارتأيته مهمّا لتوضيح ما يذكر من كلمات أو عبارات، خصوصا عند الإشارة المختصرة لأسماء شخصيات عملت في إدارته. وأرغمتني الأمانة العلمية ،على الالتزام بما انتقاه أوباما احيانا من ألفاظ – حتى وإن بدت منحازة ،أو مسيئة للبعض. وأقرّ وأنا بكامل قواي العقلية، أن الهدف من هذا العرض المترجم ،لا يمت بصلة للتعبير عن موقف، أو رأي شخصي، أو حتى تحليل ما يتذكّره رئيس القوة العظمى المهيمنة، والمتدخّلة في أحشاء العالم العربي والشرق الأوسط ،عن فترة بالغة الخصوصية في تاريخ المنطقة المعاصر. إنما الهدف -والله شهيد- أن يستفيد من لم يقرأ كتاب أوباما ،بما جاء فيه من شهادة أو معلومات ،تنير ظلمة الكثير من الغموض ،الذي أحاط “كواليس” تلك الأيام، والأهم، أن يفهم من يشاء كيف ترى وتحلّل وتتصرّف ،الإدارة الأمريكية، أمام التطوّرات “المفاجئة” في منطقتنا ،وكيف تنظر لدولها ولشعوبها ،وللفوائد المرجوة ،أو الأضرار المحتملة منها. وربما تضاعفت أهمية قراءة و”تدبّر” ما يقوله أوباما -وإن كان تاريخا وذكريات- بدخول جو بايدن الرئيس الأمريكي الجديد البيت الأبيض رسميا.. ليس فقط ،لأنه ينتمي للحزب (الديمقراطي) ،الذي منه ولج أوباما المكتب البيضاوي ،وليس أيضا للتشابه بينهما في التوجه السياسي ،ونمط التفكير في السياسة الخارجية، وانّما لأن بايدن، كان الأقرب لأوباما، بحكم موقعه كنائب له لثمان سنوات.
لنبدأ -على بركة الله- ،الحلقة الأولى من العرض الذي أبرئ ذمتي، من لصق أي استنتاجات أو تحليلات “فلسفية أو متفلسفة” ،لما هو معروض هنا مجرّدا من أي تدخّل شخصي أو تحريري ولو بالانتقاء.

مذكّرات أوباما/ يناير وفبراير 2011 – الحلقة الأولى
بينما كنت أستعد ،لإلقاء خطاب حالة الاتحاد (الخطاب الذي يلقيه رئيس الولايات المتحدة في يناير من كل عام أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأمريكي) يوم الخامس والعشرين، تجادل فريقي الرئاسي حول المدى، الذي يمكن أن أذهب إليه في التعليق على الأحداث التي تطوّرت بسرعة النار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا،فمع نجاح الاحتجاجات الشعبية في الإطاحة عمليا بالنظام الاوتوقراطي (أي الحكم الفردي) الجاثم على السلطة في تونس، بدا أن الشعوب عبر المنطقة برمّتها، اشتعل حماسها ،وحداها الأمل في إمكانية القيام بتغييرات أوسع،لكن العواقب لم تكن معروفة، ولم تكن النتائج “الطيبة” مضمونة أبدا آنذاك. وفي النهاية، أضفنا جملة واحدة مباشرة لخطابي هي: “لنكن واضحين هذه الليلة .. إن الولايات المتحدة ألأمريكية ،تقف مع الشعب في تونس ،وتؤيّد التطلّعات الديمقراطية لجميع الشعوب”.
من وجهة النظر الأمريكية، كانت التطوّرات في مصر ، هي الأكثر أهمية، حيث دعت مجموعة متحالفة من المنظمات الشبابية ،والناشطين ،وأحزاب المعارضة اليسارية،فضلا عن مثقفين وفنّانين وكتّاب كبار ،لنزول مظاهرات احتجاج شعبية ضد نظام الرئيس حسني مبارك. وفي يوم خطاب حالة الاتحاد ذاته، تدفّق نحو خمسين ألف مصري،إلى ميدان التحرير بوسط القاهرة، مطالبين وضع نهاية لقوانين الطوارئ وللقيود المفروضة على الحريّات السياسية. وشارك آلاف أخرون في احتجاجات مماثلة في أنحاء الدولة، حيث حاولت الشرطة تفريق المتظاهرين، باستخدام الهراوات وخراطيم المياه والرصاص المطّاطي وقنابل الغاز. ولم تكتف حكومة مبارك ،بإعلان حظر رسمي على التظاهر ،بل حجبت وسائل التواصل الاجتماعي مثل:فيسبوك ويوتيوب وتويتر، في محاولة منها لإعاقة المتظاهرين عن التنظيم والتعبئة والتواصل مع العالم الخارج. وعلى مدار أيام وليال تالية، تحوّل ميدان التحرير، إلى ما يشبه مخيّما ثابتا يحتله آلاف المصريين الذين قرّروا تحدّي رئيسهم والمنادين بشعار “عيش، حرية، كرامة”.
كان ذلك ،هو بالضبط السيناريو الذي حذّرت دراسة رئاسية من وقوعه، إذ وجدت الحكومة الأمريكية نفسها فجأة ،بين مطرقة حليف قمعي ،لكنه مهم ويعتمد عليه ،وسندان جمهور عازم على التغيير يردّد شعارات “ديمقراطية” ،طالما زعمنا أننا ندافع عنها.
المذهل ،أن مبارك نفسه، بدا وكأنه غير واع بالانتفاضة ،التي تغلي حوله، فقد تحدّثت معه على الهاتف، قبل ذلك بأسبوع، وكان متعاونا ومتجاوبا ،حين ناقشنا سبل إعادة الفلسطينيين والإسرائيليين لطاولة المفاوضات،وكذلك حين تحدّثنا عن الدعوة التي وجّهتها حكومته للوحدة (الوطنية) في مواجهة تفجير الكنيسة القبطية في الأسكندرية على أيدي متطرفين مسلمين، لكن حين أثّرت احتمالات أن تمتد الاحتجاحات الشعبية في تونس إلى مصر، نبذ مبارك ذلك التصوّر قائلا “مصر ليست تونس”.

بل وأكّد لي ،أن أية مظاهرة ضد الحكومة ،مصيرها الموت العاجل.وبالاستماع لصوته ونبرته، تخيّلته في رأسي جالسا في إحدى الغرف “الكهفية” المزخرفة ببذخ داخل قصره الرئاسي ،الذي التقينا فيه أول مرة، حيث الستائر مسدلة، وهو جالس في وضعية متعجرفة على كرسيه الضخم ،بينما يتسابق عدد من معاونيه على تدوين ما يقول من ملاحظات ،متّخذين وضع التأهب لتنفيذ رغباته على الفور. وفي برجه العاجي ذلك، قدّرت أن مبارك يرى فقط ما يريد أن يراه ،ويسمع فقط ما تريد أذناه أن تسمع .. ولم يبد لي ذلك جيدا بالمرّة.

استمرت المظاهرات في التأجّج في ميدان التحرير ،مثلما تواصلت الاشتباكات العنيفة بين المحتجين وقوات الأمن. ويبدو أن مبارك أفاق من سباته، فتوجّه إلى الناس ،عبر التلفزيون المصري في 28 يناير بإعلان تغيير حكومي ،لكنه لم يعرض أي مؤشّرات لنيته في الاستجابة لمطالب الإصلاح الأشمل.ومع زيادة قناعتي، بأن المشكلة لن تهدأ، استشرت فريق الأمن القومي ،في محاولة للوصول إلى رد فعل (رسمي) ملائم. لكن الفريق انقسم فيما بينه ،انقساما يعكس الاختلاف بين جيلين في التفكير، إذ مال الأعضاء الأكبر سنا والأكثر خبرة -مثل جو بايدن وهيلاري كلينتون وليونل بانيتا وروبرت غيتس، وجميعهم عملوا مع مبارك لسنوات – إلى التوصية بالتحفّظ والحذر،وذكّروني بالدور الذي لعبه حكم مبارك طويلا في حفظ السلام مع إسرائيل ،ومحاربة الإرهاب ،والتحالف مع الولايات المتحدة في العديد من القضايا الإقليمية،لكنهم أيضا اعترفوا بضرورة الضغط على مبارك ،لاتخاذ خطوات إصلاحية، مثلما حذّروا من استحالة التكهّن بمن أو بماذا قد يحلّ محله. في المقابل، كان الأعضاء الأصغر سنا –مثل سامنتا وسوزان رايس وتوني بلنكن ودينيس – مقتنعين بأن مبارك فقد شرعيته لدى الشعب المصري تماما وإلى الأبد. فكانت توصيتهم بأنه بدلا من ربط صورتنا بنظام سلطوي على شفا الانهيار (ويبدو متورّطا في تصعيد العنف ضد المتظاهرين)، فإنه من الأجدر بالإدارة الأمريكية -استراتيجيا وأخلاقيا- أن تنحاز لقوى التغيير. والحقيقة أنني تشاطرت الآمال ذاتها مع فريقي الأصغر سنا والمخاوف نفسها مع فريقي الأكبر عمرا،فكان رهاني الأفضل للوصول إلى نتيجة إيجابية،أن أحاول إقناع مبارك بالقيام بسلسلة من الإصلاحات الملموسة، من بينها إلغاء قانون الطوارئ،وإعادة الحريات السياسية والصحفية ،وتحديد موعد لإجراء انتخابات عامة حرّة نزيهة. مثل ذلك “التحوّل المنظّم” –كما وصفته هيلاري كينتون- ،من شأنه أن يعطي لأحزاب المعارضة السياسية، والمرشّحين المحتملين ما يكفي من وقت لبناء قاعدة شعبية، وتطوير خطط جادة لاستلام مسؤوليات الحكم.ومن جهة أخرى، ستمنح مبارك فرصة للتقاعد بكرامة كرجل دولة مسن، وهو ما قد يساعد في تخفيف وطأة التكهنات في المنطقة بأننا نعتزم التخلّي عن حلفائنا القدامى،عند أول بادرة تحدي.
وبينما كنا في انتظار نتيجة مهمة ويزنر (فرنك ويزنر السفير الأمريكي في القاهرة آنذاك)،ركّزت وسائل الإعلام (الامريكية) أكثر على رد فعل إدارتي تجاه الأزمة، وبالتحديد على نقطة إلى أي جانب ننحاز. وكنا حتى ذلك الحين، مقتصدين في بياناتنا الرسمية ،على أمل كسب بعض الوقت. لكن المراسلين الصحفيين في واشنطن –والعديد منهم تعاطف مع مطالب الشباب المصري- بدأوا في الضغط على روبرت غيبس (الناطق باسم البيت الأبيض)،للرد على سؤال: لماذا لا نتّخذ موقفا واضحا في دعم قوى الديمقراطية (في مصر)،أما الزعماء المجاورون في المنطقة، فأرادوا معرفة، لماذا لم ندعم مبارك بشكل أقوى ؟كان بيبي نتانياهو مصمّما على أن حفظ النظام والاستقرار في مصر، يفوق أهمية ما سواه، قائلا لي “سترى سيناريو إيران يتكرّر هناك خلال ثانيتين”.وبدا العاهل السعودي الملك عبد الله، أكثر تخوّفا، لأن انتشار المظاهرات في المنطقة، كان يمثّل تهديدا وجوديا لمستقبل عائلته الملكية، التي طالما قضت على أي محاولة تمرّد داخلي، وهو الآخر كان يؤمن بأن المحتجين المصريين ،لم يتحرّكوا بوازع من أنفسهم، بل وذهب إلى تحديد “أربع جبهات” ،تقف خلف المظاهرات، ألا وهي: الأخوان المسلمون، وحزب الله، والقاعدة، وحماس.
والحقيقة أن أيا من تحليلات أولئك الزعماء ،لم يثبت صوابه. فالمسلمون السنّة، الذين يشكّلون غالبية سكان مصر (ومنهم الأخوان المسلمون)،لم يكونوا ليخضعوا لنفوذ شيعة إيران وحزب الله،ولم يكن هناك أي دليل (حقيقي) على وجود علاقة بين تنظيم القاعدة أو حركة حماس ،والمظاهرات التي اجتاحت شوارع مصر،لكن الزعماء الأصغر سنّا في منطقة الشرق الأوسط،مثل الملك عبد الله في الأردن، كانوا يخشون من امتداد الاحتجاجات لبلدانهم، ،وبرغم أنهم استخدموا لغة أكثر ذكاء (في التواصل مع واشنطن)،فقد كان واضحا أنهم يتوقّعون أن تفضّل الولايات المتحدة خيار “الاستقرار” على “الفوضى”.
بحلول 31 يناير 2011 ،كانت دبّابات الجيش المصري منتشرة في أنحاء القاهرة، وخدمة الانترنت مغلقة في أنحاء الجمهورية ،والمحتجون يخططون لإضراب عام في اليوم التالي على مستوى الدولة. وفي تلك الأثناء، وصلتني رسالة ويزنر ،ومفادها أن مبارك مستعد للتعهّد علنا ،بأنه لن يترشّح لفترة رئاسية جديدة ،لكنه امتنع عن الالتزام بإلغاء قانون الطوارئ، أو الموافقة على تأييد انتقال سلمي للسلطة.

والحقيقة أن تقرير السفير الأمريكي أدى إلى توسيع الفجوة بين فريقي الأمن الوطني: فالأعضاء الأكبر سنا رأوا في تنازل مبارك ما يكفي من تبرير لأن نواصل مساندته، بينما اعتبر الأعضاء الأصغر الخطوة –تماما مثل إقدامه المفاجئ على على تعيين مدير جهاز مخابراته عمر سليمان في منصب نائب الرئيس- تكتيكا مراوغا يهدف إلى تهدئة المتظاهرين. وقد أخبرني توم دونيلون ودينيس ماكدونو (كبير موظفي البيت الأبيض) أن الجدل بين الفريقين تصاعد وأن الصحفيين يستغلون ذلك في التركيزعلى الانقسام بين تصريحات هيلاري وبايدن المتحفظة وتصريحات المسؤولين الآخرين في الإدارة. ولكي أضمن التناغم وأننا جميعا نتحدث بلغة واحدة ونحن بصدد الخطوة التالية، قمت باجتماع غير مخطط سلفا مع الهيئة العليا لمجلس الأمن القومي بعد ظهر اليوم الأول من شهر فبراير. ولم يكد يبدأ الاجتماع حتى علمنا أن مبارك يوجه خطابا للشعب المصري عبر التلفزيون الرسمي، فتحولنا جميعا لمتابعة الخطاب مباشرة عبر شاشة داخلية في قاعة الطوارئ. وظهر الرئيس المصري في بدلة داكنة وكان يقرأ من نص معد بدا متماشيا مع تعهده لويزنر، قال فيه إنه لم ينتوي أبدا ترشيح نفسه لفترة رئاسية تالية، وأعلن أنه سيدعو البرلمان (مجلس الشعب) المصري –الذي كان هو يسيطر عليه كليا- لمناقشة تسريع جدول زمني لإجراء انتخابات جديدة. لكن عبارات انتقال السلطة في الخطاب ظلت مبهمة للدرجة التي كان سيستنتج معها أي مشاهد مصري أن ما يقدمه مبارك من وعود في تلك اللحظة قابلة لأن ينكث بها ما أن تخمد المظاهرات. بل إن جل خطاب مبارك تركز على توجيه الاتهامات للمحرضين على الاحتجاجات ولقوى سياسية لم يسمها “اختطفت” المظاهرات الشعبية وركبتها للإضرار بالأمن الوطني للدولة وزعزعة استقرار المجتمع. وأصر مبارك -في خطابه- على أنه ماض في الوفاء بمسؤولياته كقائد “لم يسع أبدا للسلطة” يحمي مصر من عملاء الفوضى والعنف. ومع انتهاء الخطاب المتلفز بادر أحد الحضور في الغرفة بإغلاق الشاشة، وأرخيت أنا ظهري للوراء واضعا يداي خلف رأسي معقبا “هذا الكلام لن ينهي الموضوع”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق