مقالات

أعلام الأمة (2).. المجاهد الدكتور عبد الله عزام

د.أحمد نوفل

لم أجد اسماً مطابقاً للمسمّى، مثل عبد الله عزام: العبادة، والعزيمة في هذه العبادة، وأزعم أنّي من أخبر الناس بالشيخ عبد الله، فقد كنّا لا نفترق، وأمضينا في مكتب واحد سنين عدداً، حتى كان يقال: إذا أردت أيّاً منهما، ابحث عن الآخر تجدهما، وقد صدقوا.
في الدراسة، التقينا في القاهرة في الأزهر، وكان يتولّى شراء الكثير من الكتب للعبد الضعيف، قبل أن أصل إلى القاهرة، ويتولّى بنفسه التسجيل لي في الأزهر، وكان يستقبلني في المطار وإن لم يكن هو، فالدكتور عبد السلام العبادي، رحمه الله.
وكان يحب أن أسجّل في أصول الفقه، وكنت لا أود شيئاً إلا التفسير، ففيه أجد نفسي، وقد كان والحمد لله الذي تفضّل، فأكملت دراستي فيما أحب أن أكون، مع كتاب الله في التفسير.
الشيخ عبد الله كما، كنا نحب أن نناديه، دون لقب الدكتور، متفوّق على كل أقرانه في الدراسة، وكان موضع احترام أساتذته، وقد درس الأصول على عمالقة أصول الفقه في الأزهر: الشيخ عبد الغني عبد الخالق، وشقيقه الشيخ مصطفى، والشيخ محمد أبو زهرة، وغيرهم.
وكان من أوائل من تخصّص في هذا التخصص الصعب الدقيق في الأردن، ولست أعلم أحداً سبقه.. أتكلم عما أعلم.
تعمّقت الصلة بالشيخ أيام “قواعد الشيوخ”، فكانت فرصة بعد التدريب للتعلّم والتعليم والعبادة والتلاوة، وعندما يحين الدور لعملية، يذهب من يرشّح لها، ويبقى البقية في عبادتهم وتعلّمهم، وكان الشيخ عبد الله آمر قاعدة، كان هو عمودها وعمادها، وروحها بهذه الروح الشفيفة، والنفس الطيبة، النزيهة العفيفة، وكان محبوباً من إخوانه يسمعون له، وإن كان يشتد عليهم أحياناً في التدريب، وكان يضايقه ويضايقنا بالطبع، الانضواء تحت جناح الآخرين، لكن لا مفر، وإن كان لنا وللحق أقول: استقلال كامل أو شبه كامل، يعني بقليل من التنسيق، وأحياناً في بعض العمليات المشتركة، وكانت عناصرنا متفوّقة بشهادة الجميع، والحمد لله، وكان ياسر عرفات يضرب بنا المثل، وسمعتها منه مراراً في زياراته لنا، وكنت أرافقه في تلك الزيارات، فيقول للعناصر الذين معه: يا تعملوا عمليات بمستوى عمليات الشيوخ وإلا فلا، وسواء شهدوا بهذا الآن أم لم يشهدوا، فإنّي أشهد وأشهد الله على ما كان.
وانتهى العمل، وشاء الله أن نكون معاً من جديد في حقل التعليم، وكنّا كثيراً ما نشترك في أسفار في الداخل والخارج لمؤتمرات، أو ندوات، أو محاضرات.
وعندما ترك الشيخ الجامعة، ذهب للتدريس في باكستان في إحدى جامعاتها، بعد أن درّس سنة في جامعات الجزيرة العربية، فلما انفجرت أفغانستان بالثورة، إثر احتلال الروس لها، ترك التدريس في الجامعة ليلتحق بالجهاد، أما تصنفيه بالإرهاب والإرهابي فهذا أكذب ما يكون، ومن عرف الشيخ، عرف إنسانيته الراقية والرفيعة، وتديّنه العميق الصحيح الصادق الصافي، الخالي من التشدّد والبدع والغلو والتطرف، ومن كان عميقاً في دراسة الدين، لا يكون كما يصفون من أوصاف التشدّد، والإرهاب إنما يقع في هذا الجهلة، وأصحاب الطبائع المنحرفة.. أما الشيخ، فعلى الفطرة السمحة، يستحيل أن يكون كما يصفون.
والتف حوله مجموعة من الشباب، وكان يبعث يطلب مشاركتي، لكني كنت مزورّاً عن هذا، وقلت للشيخ: إن هؤلاء الجهلة سيقتلون من أنفسهم، ما لم يقتل منهم عدوهم، وقد كان.
لم أكن مرتاحاً يوماً للذهاب، ولا مطمئناً، لعلمي بتخلّف الفكر عند كثير من قيادات العمل الأفغاني، ثم إن الجبهة أصبحت مخترقة من كل الأجهزة الأمنية في العالم، وأخيراً استشهد الشيخ على يد هؤلاء المتخلّفين، سواء كانوا هم المخطّيصطين، أم المنفّذين فقط.
من فضائل الشيخ التي لا تحصى ولا تعد: كرمه الشديد، وإذا قلت لكم إنه والشيخ أحمد الأزايدة من أكرم من عرفت، فهما كذلك، فلا يكاد يخلو بيته في يوم من الضيوف، بل لا تكاد تمرّ وجبة بلا ضيوف، واستشهد والضيوف في بيته.
ومن فضائله، هذه الصلة العميقة بالقرآن، وكثيراً ما كنّا نمشي من وسط البلد إلى الشميساني مثلاً، ولا يضيع دقيقة، فيفتح المصحف ويقول: سمّع لي، فيظل يقرأ حتى نصل.
ومن فضائله، أنه ما سكن حياًّ، إلا وبنى فيه مسجداً، وربما لا يعلم الكثيرون، أن مسجد عبد الرحمن بن عوف، وهو من معالم صويلح، كان هو وراء بنائه، وأن مسجد عمار بن ياسر في الكمالية، هو من كان وراء بنائه.
ومن فضائله، أنه لا يترك قيام الليل، وهذا ما أشهد عليه، فكنا نأتي من سفر، فلا نكاد نلقي أثقالنا، حتى يغرق واحدنا في نوم عميق، أما الشيخ فيتوضأ ويصلّي ما شاء الله له، ثم يرقد.
ومن فضائله، شدة حرصه على طلب العلم، ولا أبالغ إن قلت: إني ما رأيت مثل هذه المجموعة في حب العلم وحب الكتب: الشيخ إبراهيم زيد الكيلاني رحمه الله، والشيخ محمود عبيدات رحمه الله، والشيخ فضل حسن عباس رحمه الله، والشيخ عبدالله عزام رحمه الله، هؤلاء لهم القدح المعلى في هذا المضمار، فيما أعلم، وفيما رأيت.
ومن فضائل الشيخ، تواضعه بلا ذرّة من التكلّف، وبساطته، وصفاؤه، وصدقه، وإخلاصه، ولين جانبه لإخوانه، وكثيراً ما ظُلم، وهضم، ويتجاوز.
ومن فضائل الشيخ، إخلاصه فيما بينه وبين ربه، وكيف تعلمون؟ أقول: عندما نكتشف الأمر بعد غياب وبعد تكتّم.. وإخلاصه لإخوانه وأصدقائه، ولكل من يتعامل معه.
ويتمتّع الشيخ بذاكرة عجيبة، وجلَد عجيب، فيمكن أن يعمل 10 ساعات لا يكلّ ولا يملّ، ولو استؤنف عمل جديد لقام يساهم فيه.
ومهما قلت عن الشيخ عبدالله، فلا أوفيه حقه، وإنما أخّرته، لأني أعلم أني لا أستطيع أن أعطيه حقه، ثم قلت لنفسي: فلنكتب، ولو وفيّت ربع الحق خير من العدم.
رحم الله هذه النفس الزكية، وكم أجرم في حقك من نعتك بوصف، وأنت أبعد الناس عنه، إذ وصفوك بالإرهاب، هذه الكلمة المطّاطة، التي يوصم بها من يريدون إنهاءه، ولا يوصم بها الصهاينة مثلاً. أإرهابي من قتله الإرهابيون واثنين من أبنائه؟ ومن كانت الرحمة تملأ جوانحه؟
وأعتذر لكل من عرفوا الشيخ، فأنا أعلم أنهم سيقولون: أقلنا يعلم عنه أكثر مما قلت، وأنا أقرّهم.
وختاماً، نرفع أحر الدعوات إلى مجيب الدعوات، أن يجعل أخانا الشهيد في روضات الجنّات، بصحبة المصطفى، الذي كان يحبّه حباً لا يدانى صلى الله عليه وسلم، وأن يجمعنا به في الصالحين، آمين، وسلام على أبي محمد في العالمين، فقد كان داعية عالمياً، طاف الدنيا بدينه ودعوته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق