حلمي الأسمر
في ثلاثة اجتماعات، وفي مناسبات مختلفة، كان واقع الإخوان المسلمين في الأردن، ومستقبلهم، مدار بحث وتقويم. كان الأول اجتماعا بحضور كل قيادة البلد، الأمنية والسياسية، وكان كاتب هذه السطور حاضرا بصفته كاتبا وصحافيا، وكان موضوع “الإخوان” والسيناريوهات المطروحة للتعامل معهم جزءا مهما من جدول أعمال الاجتماع. وانقسم الحضور يومها بين الاستئصال التام والفوري والتعامل معهم بالنفس الطويل، استيعابا أو تحجيما أو تعاونا، وظل يومها الموضوع مفتوحا، على الأقل وأنا حاضر، ولا أدري ماذا تم في الغرف المغلقة. كان الاجتماع الثاني في ديوان الملك. ويومها كنا مجموعة من الصحافيين نتمشّى في حديقة القصر الملكي. بعد الاجتماع، دار بيني وبين رئيس الديوان في حينها حوار عن طبيعة التعامل مع “الإخوان”. وأتذكر أنني قلت للرجل إن “الدولة” انقلبت على “الإخوان” فجأة، وتغير نهجها في التعامل معهم، فرد علي قائلا: إنهم الذين تغيروا فتغيرنا .. وذكّرني بموقفهم من ثورات الربيع العربي، حين قال أحد أهم عقلائهم، إنهم “جاهزون لاستلام الحكم”. وقال لي، أيضا، إن جهات عربية رسمية عرضت على الأردن مبالغ طائلة مقابل إعلان الجماعة كيانا إرهابيا، إلا أن الأردن رفض بشدة، لاعتبارات خاصة به، لعل أهمها أن التنظيم متجذّر في المجتمع الأردني، وممتد طولا وعرضا وعمقا في البنية الأردنية، وسيكون من الجنون الإقدام على تلك الخطوة .. واختتم الحوار على نهاية مفتوحة أيضا. أما الاجتماع الثالث، فكان على الطرف الآخر، حين دعانا المراقب العام للإخوان المسلمين إلى سهرة في بيته، للاستماع وقياداتٍ من الجماعة، لآراء كتاب وصحافيين في واقع حال الجماعة، وما عليها أن تفعله لمواجهة الظروف التي مرّت بها، خصوصا بعد انشقاق أفراد عن التنظيم، وتشكيل “جمعية” جماعة الإخوان المسلمين. وكان رأي كاتب هذه السطور، باختصار ومن الآخر، أن تتخذ الجماعة قرارا ذاتيا بحل نفسها، وتحت ظروفٍ هي تختارها، قبل أن يأتي قرار حلها من الخارج. وكان رأيا مفاجئا للحضور، ولم يتم الأخذ به، وكان من المستحيل على الجماعة أن تتخذ هذا القرار فعلا، بسبب طريقة تفكير قيادتها، على الرغم من أنه كان لديها حينها الوقت الكافي للانسحاب، وأن تلوذ بالذراع السياسية للجماعة، المسجّلة والمعترف بها رسميا، وهي حزب جبهة العمل الإسلامي.(2)
القرار “القضائي”، الصادر قبل أيام، اعتبار جماعة الإخوان المسلمين منحلة حكما، وغير موجودة أصلا، لم يفاجئ الجماعة، ولا من يراقب المشهد السياسي الأردني عن قرب، فالجماعة بعد ثورات الربيع العربي، والهجمة الاستئصالية التي واجهتها في غير بلد عربي، كانت تعيش “على صفيح ساخن”. وفي وقت ما بادرت، من تلقاء نفسها، إلى تنزيل كل لافتاتها التي كانت مرفوعة على مقارّها، وبدا أنها “حلّت نفسها” شكلا، وإن بقي التنظيم، وظلت تمارس نشاطاتها تحت لافتة الحزب. بمعنى آخر، بدا وكأن الجماعة فهمت الرسالة جيدا، وإن ظلت تخوض معركة الوجود “الرسمي” قضائيا، ربما معذرة إلى الله، على الرغم من علمها أنها وصلت إلى نهاية الطريق. ولا أظن أن قيادة الجماعة، المستمرة في ملاحقة قضية التسجيل الرسمي قضائيا، تأمل أن “تعترف” بها الدولة من جديد تنظيما شرعيا، فالقضية برمتها ليست متعلقة لا بالتسجيل الرسمي ولا بالقضاء، بل هي قرار سياسي استمر تنفيذه نحو عقدين، وفحواه بلا أي لبس أن تنظيم الإخوان المسلمين في الأردن بهذه اللافتة انتهى. والقصة، كما يفهم الجميع، أن هذا الأمر استحقاق دولي، وليس محليا.والمستهدف في هذا ما يسمى “الإسلام السياسي” الذي تم ربطه تارة بالإرهاب، وطوْرا بالتطرّف والتشدّد، والأمر في حقيقته استهداف للخيار الإسلامي الحركي، الإسلام الذي يحكم ويرسم، فقد بدا أن رأس هذا الخيار صار مطلوبا على قائمة “الشرطة الدولية” بالمفهوم العام. والأردن ليس استثناء من هذه القاعدة، ولا يمكنه الصمود إلى ما لا نهاية لـ “التوصيات” الدولية بمواجهة هذا الخيار. وكلنا نعلم تقريبا أن توصيات حل التنظيم قديمة جدا، وكانت ترد في سياق رؤى الخبراء والمستشارين الغربيين، منذ عقود.لو كان تنظيم الإخوان المسلمين هشّاً لقضي عليه منذ زمن طويل
(3)
قرار الحل إذا متعلق بحل المنحل فعلا على أرض الواقع، ولو شكلا، وهو خاص بتلك اللافتة الخضراء، أعني أن كل ما تستطيع فعله الأجهزة الرسمية العربية أن “تحظر” اللافتة. أما التنظيم فهو أكثر تجذّرا من أن يستجيب لأي قرار، فهو جزء من البنية الاجتماعية العربية، وعمل فوق الأرض وتحت الأرض سنوات طويلة، في غير بلد عربي، ولم يكن بحاجة لترخيص كي يعمل، ولو كان تنظيما هشّا لقضي عليه منذ زمن طويل. وما تعرّض له من محاولات قمع واستئصال وملاحقة في كل الساحات العربية تقريبا كان كفيلا بالقضاء عليه، ولكنه صمد وسيصمد، لسبب مهم ووجيه، أنه ليس تنظيما غريبا عن هوية البيئة الحاضنة، بل هو مجرّد تعبير عن هوية المجتمع الإسلامية. ولئن استطاعت القوانين النافذة حظر التنظيم، فأنّى لها أن تحظر الهوية. نقول هذا على الرغم من كل المحاولات الشرسة والمريرة التي ربطت الإخوان المسلمين بالإرهاب والتطرّف، وحتى الإجرام، عبر آلة إعلامية لا تكل ولا تمل.تعلمنا التجارب أن اللافتة تلغى وتمنع وتحظر، لكن المحتوى يبقى. وليست تجربة نجم الدين أربكان في تركيا بعيدة، ذلك الرجل الذي كان يشكل حزبا جديدا ويرفع لافتة جديدة، كلما حظروا تنظيما، إلى أن كانت النتيجة أن تصبح البذرة التي زرعها بستانا يمتد على كل مساحة بلاده، وهذا الأمر يفهمه جيدا من يلاحقون اللافتات الإسلامية. ولكنها معركة كسب وقت فحسب، فالنصر حليف أصحاب الهوية، لأن المجتمعات لا تُهزم، وإن بدا أنها لاذت بالصمت، أو توارت تحت الرماد. المصدر: العربي الجديدالمستهدف هو “الإسلام السياسي” الذي تم ربطه تارة بالإرهاب، وطوْرا بالتطرّف والتشدّد، والأمر في حقيقته استهداف للخيار الإسلامي الحركي